الموضوع: الفقه \ كتاب الطهارة \ المطهرات العشرة \ المعفو عنه
كان الكلام فيما لو صلى مع نجاسة ثوبه أو بدنه عامدا قلنا بطلت الصلاة وعليه الإعادة وذكرنا الأدلة وبقي النصوص الواردة في المقام
منها: حسنة عَبْدِ اللَّه بْنِ سِنَانٍ قَالَ:
( سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه ع عَنْ رَجُلٍ أَصَابَ ثَوْبَه جَنَابَةٌ أَوْ دَمٌ ، قَالَ: إِنْ كَانَ عَلِمَ أَنَّه أَصَابَ ثَوْبَه جَنَابَةٌ ، أو دم ، قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ ، ثُمَّ صَلَّى فِيه ، ولَمْ يَغْسِلْه ، فَعَلَيْه أَنْ يُعِيدَ مَا صَلَّى ، وإِنْ كَانَ لَمْ يَعْلَمْ بِه ، فَلَيْسَ عَلَيْه إِعَادَةٌ ، وإِنْ كَانَ يَرَى أَنَّه أَصَابَه شَيْءٌ فَنَظَرَ فَلَمْ يَرَ شَيْئاً أَجْزَأَه أَنْ يَنْضِحَه بِالْمَاءِ )
[1]
ومنها: صحيحة محمَّد بن مسلم عن أبي عبد الله ع قال:
( ذكر المنيَّ ، وشدَّده وجعله أشدَّ من البول ، ثمَّ قال : إن رأيتَ المنيَّ قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة ، فعليك إعادة الصلاة ، وإن نظرت في ثوبك فلم تصبْه ، ثمَّ صلَّيت فيه ، ثمَّ رأيته بعد فلا إعادة عليك ، وكذلك البول )
[2]
كذا غيرهما من الأخبار الخاصَّة .
وبالجملة: فهذه المسألة من الواضحات ، وأمَّا الجاهل بالحكم فالمشهور بين الأعلام أنَّه كالعالم به ، لإطلاق الأدلة بل قيل - كما عن "الجواهر "، وغيره -: أنَّ الأدلَّة أوضح شمولًا للجاهل بالحكم من صورة العلم ، ضرورة وضوح بطلان الصلاة من العالِم .
بل قلنا - سابقاً -: إنَّه كيف يصلي بالنجاسة ، مع علمه بأن هذا من غير لمأمور به ؟! ، وكيف تتأتَّى منه قصد القربة ، مع علمه بأنَّ ما يأتي به تشريع محرم ؟! .
وعليه: فحَمْل الروايات الكثيرة - الدَّالة على البطلان مع النجاسة - على صورة العلم بذلك يكون بياناً للبديهيات ، وهذا غريب جدًّا ، إذ من البعيد كون العالِم موضوعاً للسؤال في الروايات .
وأمَّا ما ذكره جماعة من الأعلام: من أن الجاهل لا إعادة عليه ، لا وقتاً ، ولا خارجاً ، لعدم توجه الخطاب إليه بالكليَّة ، لغفلته ، ويقبح تكليف الغافل عقلًا ، ونقلًا ، وإذا لم يكن مأموراً بطهارة الثوب والبدن فصلاته صحيحة ، لأنَّه مأمور بالصلاة مع النجاسة ، والأمر يقتضي الإجزاء .
وفيه
أوَّلًا: أنَّ الغفلة إنَّما تمنع من تنجُّز الخطاب ، لا من فعليَّته ، إذ الأحكام الواقعيَّة يشترك فيها العالم والجاهل , وليست مخصوصة بالعالم ، لِمَا عرفت في علم الأصول ، من أنَّ التقسيمات الثانوية لا يمكن أخذها في متعلق الحكم ، أو الموضوع ، للزوم الدور ، فلا يمكن أن يكون الموضوع هو العالِم بالحكم ، لتوقفه على ثبوت الحكم ، والحكم متوقِّف على تصور موضوعه الذي منه العلم بالحكم .
إن قلت: إذا لم يمكن التقييد بصورة العلم به ، فلا يمكن الإطلاق ، للتلازم بينهما .
قلت: إنَّ التقابل بين الإطلاق والتقييد في مقام الثبوت ، واللحاظ ، هو تقابل الضدين ، لا العدم والملكة ، حتَّى يقال : بالتلازم بينهما ، خلافاً للميرزا النائيني ، حيث ذهب إلى أن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة
وعليه ، فإذا كان التقابل بينهما في مقام الثبوت تقابل الضدين فإذا امتنع أحدهما ثبت الآخر ، فإذا امتنع التقييد ثبت الإطلاق بالضرورة .
ثمَّ إنَّه لو سلَّمنا أنَّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، وأنَّه إذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق ، إلَّا أنَّه يمكن حلُّ ذلك الإشكال بالأمر الثاني الذي سمَّيناه بـ "متمِّم الجعل" .
وقلنا: إنَّ "متمِّم الجعل" قد تكون نتيجته هي التقييد ، كما في قصد امتثال الأمر المأخوذ في المتعلق ، وقد تكون نتيجته الإطلاق ، كما في مقامنا ، لقيام الدليل على اشتراك العالم والجاهل في الأحكام الواقعيَّة .
ومهما يكن ، فالجاهل مكلَّف بالحكم ،كالعالم ، وفي صورة الجهل - حتَّى الجاهل بالجهل المركَّب - لم يرتفع عنه التكليف ، وإنَّما يكون التكليف غير منجَّزٍ لاشتراك التنجيز بصورة العلم ، أو ما بحكمه .
ومن هنا ذهبنا - وفاقاً للمشهور - : إلى أنَّ الكفار مكلَّفون بالفروع ، مع غفلتهم عنها ، وجهلهم بها .
وممَّا ذكرنا يندفع ما ذكره صاحب المدارك ، تبعاً للفاضل الأردبيلي أستاذِه ، من التفصيل بين الإعادة والقضاء .
قال في "المدارك": والحقّ أنَّهم إن أرادوا - بكون الجاهل كالعامد -: أنَّه مثله في وجوب الإعادة في الوقت ، مع الإخلال بالعبادة ، فهو حقٌّ ، لعدم حصول الامتثال المقتضي لبقاء المكلَّف تحت العهدة ؛ وإن أرادوا : أنَّه كالعامد في وجوب القضاء فهو - على إطلاقه - مشكل ، لأنَّ القضاء فَرْض مستأنف ، فيتوقَّف على الدليل ، فإن ثبت مطلقاً ، أو في بعض الصور ثبت الوجوب ، وإلَّا فلا ... ، إذ لا فرق فيما ذكرناه بين الإعادة والقضاء ، لأنَّ المناط واحد ، هذا كلُّه بحسب ما تقتضيه النصوص ، والأدلَّة الأوليَّة .
ولكنَّ الإنصاف - بمقتضى الأدلَّة الثانويَّة -: هو التفصيل بين الجاهل بالحكم المقصِّر والجاهل به القاصر ، وأنَّ الثاني لا إعادة عليه ، فضلًا عن القضاء ، بخلاف الأُولى فإنَّه يجب عليه الإعادة والقضاء .
أمَّا أنَّه يجب عليه الإعادة والقضاء فلِمَا ذكرناه ، بلا حاجة للإعادة ، وهذا أمر مطِّرد في جميع الأمور ، ولا يختصُّ ذلك بالنجاسة والطهارة .
نعم ، ورد في بعض الموارد أنَّ الجاهل مطلقاً - أي حتَّى المقصِّر - لا إعادة عليه ، فضلًا عن القضاء ، وذلك للنصوص الخاصَّة ، كما في الجاهل بأصل وجوب التقصير على المسافر ، فإنَّه لو صلَّى تماماً فلا إعادة عليه الوقت إذا عرف الحكم بعد الصلاة ، فضلًا عن القضاء ، وكما فيمَن صلَّى جهراً في مورد الإخفات ، أو أخفت في مورد الجهر جهلًا منه بأصل الحكم ، فإنَّه لا إعادة عليه .
وكما لو صلَّى الحاجُّ الركعتَيْن بعد الطواف ، ولم يكن ذلك خلف مقام إبراهيم ع ، جهلًا منه بأصل الحكم ، وكذا في بعض الموارد التي لا يسع المجال لذكرها ، كلّ ذلك للروايات الخاصَّة .
[1]
- الوسائل باب40 من أبواب النجاسات ح3
[2]
- الوسائل باب16 من أبواب النجاسات ح2