الفقه \ كتاب الطهارة \ المطهرات العشرة \ الشمس
كان الكلام بالنسبة إلى تطهير الإناء بالماء الكثير والجاري هل يسقط العدد أم لا واستدلوا على ذلك بإطلاق أدلَّة التطهير بالماء ، وإطلاق ما دلّ على أنَّ المتنجِّس يطهر بغسله ، ومقتضى ذلك الاكتفاء بالمرَّة الواحدة .
وأجبنا عن ذلك أنَّ دليل المقيِّد أيضاً مطلق ، وهو مقدَّم بحسب العرف على دليل المطلق .
اُنظر إلى ما دلَّ على لزوم التعدُّد في الإناء المتنجِّس بالخمر ، أو بوُلُوغ الخِنزير ، أو بوقوع ميتة الجرذ فيه ، فإنَّه مطلق ، ومقتضى إطلاقه عدم الفرق بين غسله بالماء القليل والكثير .
نعم ، يقتصر في لزوم التعدُّد على المتنجِّس بهذه الثلاث فقط ، ولا يشمل الإناء المتنجِّس بغيرها البطلان القياس .
إن قلت: لا نحتاج إلى القياس فإنَّه موثَّقة عمَّار المتقدِّمة - الدَّالّة على اعتبار الثلاث مرات - واردة في مطلق الإناء القذر ، سواء كان متنجِّساً بهذه الأمور الثلاث ، أم غيرها ، ومقتضى إطلاقها عدم الفرق بين الغسل بالماء القليل والغسل بالماء الكثير ، وهي مقيِّدة لإطلاق أدلَّة التطهير بالماء .
وقد ذكرنا : أنَّ دليل المقيِّد مقدَّم على دليل المطلق .
قلت: ذكرنا قبل قليل أنَّ الموثَّقة منصرفة إلى التطهير بالماء القليل ، لأنَّ الوارد فيها لفظ الصبّ ، وقد عرفت أنَّ صبّ الماء في الإناء ، وتفريغه ، لا يتحقّق عادة إلَّا في الماء القليل .
وأمَّا صحيحة ابن مسلم المتقدِّمة حيث قال: ( سألت أبا عبد الله ع عن الثوب يصيبه البول ، قال : اغسله في المِركَن مرتَيْن ، فإنْ غسلته في ماءٍ جارٍ فمرّة واحدة )
[1]
حيث ذكرنا سابقاً أنَّه لا خصوصيَّة للجاري ، فيكون الكثير غير الجاري كذلك ، فهو ، وإن كان كذلك ، إلَّا أنَّ مورده الثوب ، ولا يمكن قياس الإناء عليه .
والخلاصة إلى هنا: أنَّ الإناء المتنجِّس بالأمور الثلاثة المتقدِّمة لا بدَّ في تطهيره بالماء من التعدد ، سواء أكان الغسل بالماء القليل ، أم الكثير ، وفي غير ذلك يسقط التعدُّد في غسله بالماء الكثير ، والله العالم بحقائق أحكامه .
قال المصنف: ( ولا يكفي عن التعفير مع القدرة عليه على قول )
ذكرنا مسألة : "عدم سقوط التعفير إذا غسل الإناء بالماء الكثير" في الأمر الثامن من الأمور المتقدِّمة ، في مسألة وُلُوغ الكلب من الإناء، وذكرنا أدلَّة الطرفَيْن بالتفصيل ، فراجع .
قال المصنف: ( المطهِّرات عشرة : الماء ، كما مرَّ ، والشمس إذا جفَّفت الأرض ، والحُصْر ، والبَوَاري ، وما لا يُنقَل ، وزالت العين ، لا بتجفيف الريح ، خلافاً للمبسوط )
المشهور بين الأعلام المتأخرين: أنَّ الأرض إذا أصابتها نجاسة برطوبة كفى في طهارتها إشراق الشمس عليها ، وتجفيفها للرطوبة ، بعد إزالة العين ، إن كانت العين موجودة .
قال الشيخ المفيد في "المقنعة" : ( والأرض إذا وقع عليها البول ، ثمَّ طلعت عليها الشمس فجفَّفتها طهرت بذلك ، وكذ ا القول في الحُصْر )
ونحوه قال الشيخ في "المبسوط" .
وألحقوا بالأرض - في هذا الحكم -: كلّ ما لا يُنقل ، ولا يحوَّل ، في العادة ، كالأشجار ، والأبنية ، والأبواب المثبتة ، والأوتاد الداخلة ، والفواكه على الشجر ، ومن المنقول الحُصُر ، والبَوَاري ، لا غير .
وحُكِي عن العلَّامة في "المنتهى" اختصاص النجاسة بالبول ، دون سائر النجاسات ، وحُكِي عن الشيخ في موضع من "المبسوط" التخصيص بالبول أيضاً.
وحُكِي عن الشيخ في موضع من "الخلاف" إلحاق الريح بالشمس في المطهِّريَّة ، قال: ( الأرض إذا أصابتها نجاسة ، مثل البول ، وما أشبهه ، وطلعت عليه الشمس ، أو هبَّت عليه الريح حتَّى زال عين النجاسة ، طهَّره ... ) .
وقال المحقِّق في "المعتبر": ( أنَّ الراوندي ، وصاحب الوسيلة ، ذهبا إلى أنَّ الأرض ، والبواري ، والحُصْر إذا أصابها البول ، وجفَّفتها الشمس ، لا تطهر بذلك ، ولكن يجوز الصلاة عليها ) ، ثمَّ قال : ( وهو جيد )
وقد توقَّف في المسألة صاحبا المدارك والحدائق .
إذا عرفت ذلك ، فيقع الكلام في ثلاث أمور :
الأول: في أنَّ الشمس : هل هي مطهِّرة ، أو أنَّها لا تؤثِّر إلَّا في العفو عن النجاسة ؟ .
الثاني: هل يختصّ الحكم بالبول ، أم يعمّ سائر النجاسات ، والمتنجِّسات ؟ .
الثالث: ما الذي يطهر بها من المواضع ؟ .
أمَّا الأمر الأوَّل: فالمشهور بين الأعلام أنَّها تطهر ، بل عن الشيخ جعفر كاشف الغِطاء أنَّها شهرة ، كادت تبلغ الإجماع ، بل عن "كشف الحقِّ" هو معقد مذهب الإماميَّة وعن موضع من "الخِلاف" حكاية الإجماع عليه ، وكذا في "السرائر" .
أقول: محرّر حكاية الإجماع لا يكفي في المقام ، لِمَا عرفت ، من عدم حجِّية الإجماع المنقول بخبر الواحد .
نعم ، لو حصل التسالم عليها بين كلّ الأعلام لأفادت القطع ، إلَّا أنَّه غير حاصل ، على ما يظهر ، ومن هنا لا بدَّ من الرجوع إلى الأخبار ، لنرى ماذا يُستفاد منها ؟ .
وقد استُدلّ على الطهارة ببعض الأخبار :
منها: صحيح زرارة قال:
( سألت أبا جعفر ع عن البول ، يكون على السطح ، أو في المكان الذي يصلّى فيه ، فقال : إذا جفَّفته الشمس فصلِّ عليه ، فهو طاهر )
[2]
.
وهو ظاهر جدّاً في الطهارة ، لقوله ع : فهو طاهر .
وأمَّا القول: بأنَّ الطهارة محمولة على المعنى اللُغوي ، لعدم ثبوت الحقيقة الشرعيَّة .
ففيه: ما ذكرناه في أكثر من مناسبة بأنَّه على فرض أنَّ الحقيقة الشرعيَّة في الطهارة غير ثابتة ، إلَّا أنَّه لا إشكال في ثبوت الحقيقة المتشرعيَّة ، وقد استعملها الأئمة ﭺ ، بما لها من المعنى في زمان الشارع المقدس ، لا سيَّما ، وأنَّه هناك قرينة تدلّ على أنَّ المراد منها المعنى المصطلح ، وهي السؤال عن حكم الصلاة في هذا المكان الذي جفَّفته الشمس .
نعم ، لنا كلام في هذه الصحيحة ، من حيث اختصاص النجاسة بالبول ، واختصاص الموضوع بالسطح ، أو المكان الذي يصلِّي فيه ، فلا تشمل كلَّ ما هو غير منقول ، وسيأتي الكلام - إن شاء الله تعالى - عن هاتَيْن الجهتَيْن .
[1]
- الوسائل باب2 من أبواب النجاسات ح1
[2]
- الوسائل باب29من أبواب النجاسات ح1