الموضوع: الفقه \ كتاب الطهارة \ النجاسات العشرة\ الخمر
الكلام فيما ذهب اليه ابنا الجنيد والرج في التفريق بين الآنية الصلبة وغيرها فما الدليل على ذلك
وقد يُستدلّ لما ذهب إليه ابنا الجنيد والبراج بدليلَيْن :
الأوَّل: أنَّ للخمر حدَّة ، ونفوذاً ، فتستقرّ أجزاؤه في باطن الإناء ، ولا ينالها الماء .
وفيه أوَّلًا: أنَّنا نقطع بوصول الماء إلى جميع المنافذ التي وصل إليها الخمر ، خصوصاً إذا وضعت الآنية في كرٍّ ، أو جارٍ .
وثانياً - لو سلمنا ذلك -: فإنَّما يلزم منه عدم قبول الأجزاء الباطنيَّة التي لا يصل إليها الماء للتطهير ، وهذا لا منع من طهارة ظاهرها بالغسل ، ولا يوجب نجاسة ما يصبّ فيها .
الدليل الثاني: روايتان
الأُولى: صحيحة محمَّد بن مسلم عن أحدهما قَالَ
: ( سَأَلْتُه عَنْ نَبِيذٍ ، قَدْ سَكَنَ غَلَيَانُه ، فَقَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وآله : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ ، قَالَ : وسَأَلْتُه عَنِ الظُّرُوفِ ، فَقَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وآله : عَنِ الدُّبَّاءِ ، والمُزَفَّتِ ، وزِدْتُمْ أَنْتُمُ الْحَنْتَمَ ، يَعْنِي الْغَضَارَ ، والْمُزَفَّتُ ، يَعْنِي الزِّفْتَ الَّذِي يَكُونُ فِي الزِّقِّ ، ويُصَبُّ فِي الْخَوَابِي ، لِيَكُونَ أَجْوَدَ لِلْخَمْرِ ، قَالَ : وسَأَلْتُه عَنِ الْجِرَارِ الْخُضْرِ والرَّصَاصِ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهَا )
[1]
الثانية: رواية أبي الربيع الشامي عن أبي عبد الله ع قال:
( نهى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن كل مسكر ، فكلُّ مسكر حرام ، قلت : فالظروف التي يصنع فيها منه ؟ فقال : نهى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن الدبَّا والمزفَّت والحَنتم والنَّقير ، قلت : وما ذلك ؟ قال : الدُّبَّا : القرع ، والْمُزَفَّتُ : الدنان ، وَالْحَنْتَمَ : جِرار خضر ، والنَّقِير : خشب ، كان أهل الجاهلية ينقرونها ، حتَّى يصير لها أجواف ينبذون فيها )
[2]
وهي ضعيفة بجهالة أبي الربيع الشامي .
قال في "النهاية": ( والحنتم بالحاء المهملة ، ثمَّ النون ، ثمَّ التاء المثنَّاة الفوقانية : جِرار خضر مدهونة ، كانت تحمل فيها الخمر إلى المدينة ، ثمَّ اتسع فيها ، فقيل للخزف كلّه : حنتم واحده حنتمة ، وإنَّما نهى الانتباذ فيها لأنها تسرع الشدَّة فيها لأجل دهنها ، وقيل : إنَّها تعمل من طين ، يعجن بالدم ، فنهى عنها ، ليمتنع من عملها )
والإنصاف: أنَّ هاتَيْن الروايتَيْن لا تدلَّان على المنع ، بل ظاهرهما - والله العالم - أنَّ النهي عن الانتباذ فيها إنَّما هو مخافة الاختمار ، باعتبار ما في الإناء من الدُهنيَّة ، لا مطلق استعمالها .
ويدلّ على ذلك النهي فيها عن الْمُزَفَّت ، أي المَطْلي بالزِّفْت ، وهو القِير ، وعن الْحَنْتَم ، وهي الجرار الخِضْر المدهونة ، وقد تقدَّم أنَّه لا إشكال في قابليته للتطهير ، وجواز استعماله ، فعلم من ذلك إرادة بيان خصوصيةٍ للانتباذ خوفاً عليه من الاختمار .
هذا كلّه مع قطع النظر عن ضَعف رواية أبي الربيع سنداً ، وعمَّا في صحيحة ابن مسلم من التهافت بين الصدر والذَيْل ، لأنَّه في الذَيْل نفى البأس عن الجِرار الخُضر ، مع أنَّه في الصدر بعدما نهى عن الدبَّاء والمزَّفَت ، قال (صلى الله عليه وآله) : وزدتم أنتم الحَنْتَم ، وقد عرفت أنَّ المراد به الجِرار الخُضر المدهونة .
اللهمَّ إلا أن يُقال : إنَّ المراد من الجِرار الخُضر التي نفى البأس عنها هي غير المدهونة التي لا يخاف منه الاختمار ، لعدم الدهن ، والله العالم .
قال المصنف: (وقِيل : يكفي المرَّة )
القائل بذلك المحقِّق في "المعتبر" ، والمصنِّف في "البيان" ، والشهيد الثاني في "الروض" ، وصاحب المدارك ، وقلنا: إنَّ الأقوى هو الثلاث ، راجع ما ذكرناه بالتفصيل عند قول الماتن : (ويغسل الإناء في غير ذلك ثلاثاً ...) ، فلا حاجة للإعادة .
قال المصنف: ( ويسقط العدد في الكثير )
ذكرنا سابقاً عند الكلام عن غسل الثوب المتنجّس بالبول أنَّه يغسَّل بالماء القليل مرتَيْن ، وبالماء الجاري ، والكثير ، يكفي المرَّة ، كما أنَّنا ذكرنا حكم الإناء إذا وَلَغ به الكلب ، وقلنا : يكفي غسله بعد التعفير بالتراب مرَّة واحدة بالجاري والكثير ، راجع ما ذكرناه في الأمر التاسع عند ذكر التنبيهات في مسألة الولوغ .
وأمَّا الإناء المتنجِّس بباقي النجاسات : فهل يسقط التعدُّد لو غسل بالجاري ، والكثير ، أم لا ؟ .
المعروف بين الأعلام : هو السقوط ، منهم المصنِّف في "الذكرى" ، حيث قال : ( لا ريب في عدم اعتبار العدد في الجاري ، والكثير ، في غير الولوغ ... )
وقد يُستدلّ على سقوط بعدَّة أدلَّة :
منها: انصراف أدلَّة التعدُّد إلى الغسل بالماء القليل .
وفيه: أنَّ هذا الانصراف منشأه غلبة الوجود ، لأنَّ الغالب في ذلك الوقت الغسل بالماء القليل ، لقلَّة الكثير .
ومن المعلوم أنَّ الانصراف إذا كان منشؤه غلبة الوجود لا يعتدّ به .
نعم ، دعوى الانصراف في موثَّقة عمَّار الآمرة بغسل الإناء المتنجّس ثلاث مرات الواردة في مطلق الإناء القذر في محلِّها ، وذلك لاشتمالها على الصبّ الغالب في القليل ، لأنَّ صبّ الماء في الإناء ، وتفريغه ، لا يتحقّق عادة إلَّا في القليل .
ومنها: مرسلة العلَّامة في "المختلف" ، والتي ذكرناها عند الكلام عن غسل الثوب المتنجِّس بالبول ، وقلنا : إنَّها ضعيفة بالإرسال ، فلا حاجة للإعادة .
ومنها: مرسلة الكاهلي ، حيث ورد في ذَيْلها : ( كلّ شيء يراه ماء المطر فقد طهر )
[3]
، حيث دلَّت على كفاية مجرد الرواية في التطهير بماء المطر ، وبما أنَّ ماء المطر معتصم فيكون كلّ معتصم حكمه كذلك .
وفيه: ما ذكرناه سابقاً من أنَّها ضعيفة بالإرسال ، مع قطع النظر عن احتمال الخصوصية لماء المطر .
ومنها: إطلاق أدلَّة التطهير بالماء ، وإطلاق ما دلّ على أنَّ المتنجِّس يطهر بغسله ، ومقتضى ذلك الاكتفاء بالمرَّة الواحدة .
وفيه: أنَّ دليل المقيِّد أيضاً مطلق ، وهو مقدَّم بحسب العرف على دليل المطلق .
اُنظر إلى ما دلَّ على لزوم التعدُّد في الإناء المتنجِّس بالخمر ، أو بوُلُوغ الخِنزير ، أو بوقوع ميتة الجرذ فيه ، فإنَّه مطلق ، ومقتضى إطلاقه عدم الفرق بين غسله بالماء القليل والكثير .
[1]
- الوسائل باب52 من أبواب النجاسات ح1
[2]
- الوسائل باب52 من أبواب النجاسات ح2
[3]
- الوسائل باب6 من أبواب الماء المطلق ح5