الفقه \ كتاب الطهارة \ النجاسات العشرة\ البول والغائط
قال المصنف: ( أو كان طيرا على الأقوى )
المشهور بين الأعلام نجاسة بول وخُرء الطيور التي لا يُؤكل لحمها ، منهم صاحب الجواهر ، حيث قال: ( لكن يقوى في النظر القول بالنجاسة مطلقا ، كما هو خِيَرة الأكثر نقلًا وتحصيلا ، بل هو المشهور كذلك شهرة عظيمة تقرب للإجماع ... )
وتردّد المحقّق الهمداني حيث قال: ( فالإنصاف أنّ مخالفة المشهور في مثل هذا الفرع في غاية الإشكال ، لكنّ موافقتهم بطرح النصّ الخاص ، ورفع اليد عن الأصول المعتبرة ، ما لم يحصل القطع بتحقق الكليّة في الشريعة على وجه لا تقبل التخصيص ، أشكل ، فالمسألة موقع تردّد ، والاحتياط مما لا ينبغي تركه )
وذهب الشيخ الصدوق والعماني والجعفي إلى القول بالطهارة ، وعن الشيخ في "المبسوط" موافقتهم ، إلّا أنّه استثني منه الخشَّاف ، وعن العلّامة في "المنتهى" ، والمحقّق الخونساري في "مشارق الشموس" القول بالطهارة أيضًا ، وكذا صاحبا الحدائق والمدارك بعد جزمه بطهارة الخُرء تردّد في البول نوع تردد ، ولكنّه أخيرًا قوّى القول بالطهارة ، وذهب إلى هذا القول أيضًا كثير من متأخري المتأخرين ، منهم السيد الحكيم في "المستمسك" ، والسيد أبو القاسم الخوئي في "التنقيح" ، وهو الأقوى كما سيتضح لك وجهه .
إذا عرفت ذلك فقد استُدل للمشهور القائلين بالنجاسة بعدّة أدلّة :
منها: الإجماع المدّعى من بعض الأعلام ، بل لعلّ دعوى الإجماع مستفيضة ، قال في "السرائر" - في باب البئر - : ( قد اتفقنا على نجاسة ذرق غير المأكول من سائر الطيور ، وقد رُويت رواية شاذّة لا يعوّل عليها "أنّ ذرق الطائر طاهر سواء كان مأكول اللحم أو غير مأكوله" ، والمعمول عند محقّقي أصحابنا ، والمحصلين منهم ، خلاف هذه الرواية ، لأنه هو الذي يقتضيه أخبارهم المجمع عليها ... ) .
وفيه: أنّ الإجماع المحكي وإن استفاض نقله إلّا أنّه غير مشمول لحجّية الخبر الواحد،كما عرفت في أكثر من مناسبة.
أضف إلى ذلك: أنّه مدركي أو محتمل المدركية ، فلا يكون إجماعًا تعبديًّا كاشفًا عن رأي المعصوم .
ومنها: الروايات الكثيرة المطلقة الآمرة بغسل الجسد والثوب من البول ، وقد تقدّم بعضها سابقًا ، وفيها الصحيح والحسن .
وفيه: ما تقدّم أيضًا من أنّها منصرفة إلى بول الإنسان ، فلا تشمل ما نحن فيه .
ومنها: الروايات الكثيرة الدّالة على نجاسة العذرة ، وقد استدل بهذا الدليل المحقّق في "المعتبر" ، مدّعيًا أنّ الخُرء والعذرة مترادفان .
وفيه: ما ذكرناه سابقًا أنّ العذرة تطلق على فضلة الإنسان ، وليست مرادفة للخُرء ، قال الهروي: ( العذرة أصلها فناء الدار ، وسميت عذرة الناس بهذا لأنّها كانت تُلقى في الأفنية ، فكنّى عنها باسم الفناء ) .
نعم يظهر من بعض أهل اللغة أنّ لفظ العذرة أعمّ من فضلة الإنسان حيث فسّر صاحب القاموس الخُرء بالعذرة ، وكذا صاحب الصحاح ، وهذا يدلّ على المراد منه كما ذكره المحقّق ، وقال صاحب المجمع: ( الخُرء الغائط ...) ومن المعلوم أنّ الغائط مخصوص بفضلة الإنسان ، وهذا يكشف عن ترادف الخرء والعذرة ، وقد تقدّم في صحيحة عبد الرحمان بن أبي عبد الله إطلاق العذرة على عذرة السنّور والكلب ، قال:
( سألت أبا عبد الله عن الرجل يصلّي ، وفي ثوبه عذرة من إنسان أو سنّور أو كلب ، أيعيد صلاته ؟ ، قال : إن كان لم يعلم فلا يعيد )
[1]
، وكذا غيرها من الأخبار .
ولكنّ الإنصاف - بعد تسليم كونها حقيقة في الأعم - : أنّها منصرفة في الروايات المطلقة مع عدم القرينة إلى خصوص فضلة الإنسان ، وأمّا إطلاقها في صحيحة عبد الحرمان على عذرة السنّور والكلب فإنّما هو للقرينة ، وكذا إطلاقها على عذرة غير الإنسان في غيرها من الأخبار فإنّما هو للقرينة .
ومنها: مفهوم موثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبد الله قال:
( كلّ ما أكِل لحمه فلا بأس بما يخرج منه )
[2]
ومفهوم حسنة زرارة أنّهما قالا:
( لا تغسل ثوبك من بول شيء يؤكل لحمه )
[3]
.
وفيه: ما ذكرناه في أكثر من مناسبة من أنّ الوصف لا مفهوم له ، وبما أنّ الاستدلال في هاتَين الروايتَين مبنيّ على مفهوم الوصف فيسقط الاستدلال بهما حينئذٍ .
ومنها: قد استدل به الشيخ الأنصاري وهو ما نقله العلّامة في "المختلف" من كتاب عمّار من أنّ الصادق قال:
( خرء الخطّاف لا بأس به ، هو ممّا يُؤكل لحمه ، لكن أكره أكله ، لأنّه استجار بك ، وآوى إلى منزلك ، وكلّ طير يستجير بك فأجره )
[4]
.
وجه الاستدلال: أنّه علّل الطهارة بكونه مأكول اللحم لا بالطيران ، وظاهره أنّ (الخطّاف) لو لم يكن محلّل الأكل كان في خرئه بأس .
وفيه:
أوّلًا: أنّه لم يُعلم طريق العلّامة إلى كتاب عمّار ، لأنّه من المعلوم أنّ السلسلة انقطعت عند الشيخ الطوسي فالمتأخرون طريقهم إلى أرباب الأصول والكتب ، ومن المعلوم أنّ الشيخ روى هذه الرواية من كتاب عمّار بطريق موثّق بدون كلمة (خرء) ، ومفادها حينئذٍ أنّ الخطّاف لا بأس به ، أي من حيث الحليّة ، ولا ربط لها حينئذٍ بطهارة البول أو نجاستها .
وثانيا: أنّه لا يظهر منها أنّ حليّة الأكل علّة لطهارة خرئه .
نعم فيها إشعار بذلك لا يصل إلى مرتبة الظهور ، ولعلّ السرّ في ذكر قوله : (هو ممّا يُؤكل لحمه) هو التركيز على تأكّد حلّ اللحم الذي هو في حدّ ذاته سبب لنفي النجاسة ، ولو من غير جهة الطيران ، فلا ينافيه كون الطيران أيضا سببًا لنفيها .
ومنها - وهو العمدة -: روايتان لعبد الله بن سنان :
الأولى: وهي حسنة قال:
( قال أبو عبد الله: اِغسل ثوبك من أبوال ما يُؤكل لحمه )
[5]
.
والثانية: عن أبي عبد الله قال
: ( اغسل ثوبك من بول كل ما لا يؤكل لحمه )
[6]
وهي ضعيفة ، وقد ذكرنا السبب في ضعفها ، فراجع ، والمعتبر حينئذٍ هي الحسنة .
[1]
- الوسائل باب40 من أبواب النجاسات ح5
[2]
- الوسائل باب9 من أبواب النجاسات ح12
[3]
- الوسائل باب9 من أبواب النجاسات ح4 .
[4]
- الوسائل باب9 من أبواب النجاسات ح20 .
[5]
- الوسائل باب 8 من أبواب النجاسات ح2
[6]
- الوسائل باب 8 من أبواب النجاسات ح3