الفقه \ كتاب الطهارة \ الأسئار\ السؤر يتبع الحيوان طهارة ونجاسة\سؤر الحائض
قال المصنف: ( وأكل الجيف، مع الخلو عن النجاسة، والحائض المتهمة )
أطلق جماعة من الأعلام - كالسيد المرتضى في "المصباح" ، والشيخ في "المبسوط" - الحكم بكراهة سؤر الحائض من غير تقييد ، وقيّدها الشيخ في النهاية بالمتّهمة ، وكذا حكي عن سلّار الديلمي ، وذهب إليه أيضّا المصنّف هنا ، والشهيد الثاني ، والعلامة في جملة من كتبه ، وذهب المحقّق في "الشرائع" إلى التقييد بالتي لا تُؤمَن ، أي لا تُؤمَن من التحفّظ عن مباشرة النجاسات .
أقول: لا يوجد في الأخبار تقييد بالمتّهمة ، وإنّما الموجود في بعض الأخبار التقييد بغير المأمونة ، ولا يخفى أنّ المتّهمة أخصّ من غير المأمونة ، لأنّ مَن لا يُعرف حالها غير مأمونة ، وهي غير متهمة ، ولكنّ صاحب الجواهر أصرّ على أنّ غير المأمونة هي المتّهمة حيث قال : ( متى صدق عليها أنّها غير متّهمة صدق عليها أنّها مأمونة ، ومتى صدق عليها أنّها غير مأمونة صدق عليها أنّها متّهمة ، نعم هما لا يصدقان على مجهولة الحال ، وكان عدم التعرّض له لأنّه قلّ ما تحصل المساورة مع الحائض مجهولة الحال ، بل الغالب عدم معرفة كونها حائضًا ، كما أنّ الغالب معرفة كونها مأمونة أوّلًا مع العلم بحيضها ، لكونها حينئذٍ زوجة مثلًا له ... ) .
أقول: لسنا بحاجة إلى تحقيق كون غير المأمونة هي المتّهمة لغة ، وإن كان إثبات التساوي بينهما في غاية الصعوبة ، والسرّ في عدم الحاجة إلى تحقيق ذلك هو أنّ المتبادر من غير المأمونة في بعض الأخبار الآتية هي المتهمة ، وذلك لأنّ مجهولة الحال التي يصدق عليها أنّها غير مأمونة مع كونها غير متّهمة قليلة الابتلاء جدًّا ، لما عرفت من كون الغالب عدم معرفة كونها حائضا ، ومع العلم بكونها حائضًا فإنّه يعلم حالها للزوج ، أو غيره المطّلع على حالها .
ومهما يكن فإنّ من ذهب إلى إطلاق الكراهة ، وعدم تقييدها بشيء ، فقد يُستدل له ببعض الأخبار :
منها: خبر العيص على رواية الكليني قال:
( سألت أبا عبد الله عن سؤر الحائض ، فقال : ( لا توضّأ منه ، وتوضّأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة ، ثمّ تغسل يديها قبل أن تدخلهما الإناء ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يغتسل هو وعائشة في إناء واحد ، ويغتسلان جميعا )
[1]
.ولكنّه ضعيف لجهالة محمد بن إسماعيل البندقي، وأمّا على نسخة "التهذيب"، "والاستبصار" ، فسيأتي الكلام عنها .
ومنها: خبر عنبسة بن مصعب عن أبي عبد الله قال:
( سؤر الحائض تشرب منه ، ولا توضّأ )
[2]
.
وهو ضعيف أيضًا بعدم وثاقة عنبسة بن مصعب .
ومنها: موثّقة أبي بصير عن أبي عبد الله قال:
( سألته هل يُتوضّأ من فضل وضوء الحائض ، قال : لا )
[3]
.
والرواية موثّقة ، لأنّ علي بن محمد بن الزبير الواقع في إسناد الشيخ إلى ابن فضّال هو من المعاريف الكاشف ذلك عن وثاقته ، كما أنّ يعقوبَ بن سالم الأحمر عمّ علي بن أسباط ثقةٌ .
ومنها: رواية أبي هلال قال :
( قال أبو عبد الله : المرأة الطامث أشرب من فضل شرابها ، ولا أحبّ أن أتوضّأ منه )
[4]
وهو ضعيف أيضًا بجهالة أبي هلال .
ومنها: خبر ابن أبي يعفور قال :
( سألت أبا عبد الله أيتوضأ الرجل من فضل المرأة ، قال : إذا كانت تعرف الوضوء ؛ ولا تتوضّأْ من سؤر الحائض )
[5]
.ولكنّه ضعيف بمعلّى بن محمد ، فإنّه غير موثّق .
ومنها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر قال:
( سألته عن الحائض ، قال : تشرب من سؤرها ، ولا تتوضّأ منه )
[6]
وأمّا مَن ذهب إلى تقييد الكراهة بكونها غير مأمونة فقد يُستدل له بجملة من الأخبار :
منها: موثّقة العيص المتقدّمة على نسخة "التهذيب" ، و"الاستبصار" ، بإسقاط لفظة (لا) من أوّلها ، ويكون قوله : (إذا كانت مأمونة) قيدًا للجنب ، والحائض ، وهي موثّقة لما عرفت من أنّ ابن الزبير الواقع في إسناد الشيخ إلى ابن فضال من المعاريف .
ومنها: صحيحة رفاعة عن أبي عبد الله قال:
( إن سؤر الحائض لا بأس به أن تتوضّأ منه إذا كانت تغسل يديها )
[7]
والرواية صحيحة ، لأنّ ابن إدريس ، وإن لم يذكر طريقه إلى الأصول التي أخذ منها الروايات في "مستطرفاته" إلّا أنّا ذكرنا أنّ الروايات التي أخذها من كتاب محمّد بن علي بن محبوب طريقه إليها معتبر ، وذلك لأنّ ابن إدريس ذكر أنّ كتاب محمّد بن علي بن محبوب موجود عنده بخطّ جده الشيخ الطوسي ، وهو يعرف خطّ جدّه تمامًا ، كما أنّ طريق الشيخ إلى كتاب محمّد بن علي بن محبوب صحيح ، وعليه فلا إشكال في السند .
ومنها: موثّقة علي بن يقطين عن أبي الحسن
( في الرجل يتوضّأ بفضل الحائض ، قال : إذا كانت مأمونة فلا بأس )
[8]
ومقتضى الجمع العرفي هو حمل المطلق على المقيّد ، أي يكره التوضّؤ من سؤر الحائض إذا كانت غير مأمونة ، وأمّا إذا كانت مأمونة فلا يكره ، ولكن ذكر بعضهم أنّه يمكن الجمع بين الأخبار بحمل المطلَقات على الكراهة الخفيفة ، والمقيّدات على الكراهة الشديدة ، وذلك لأنّ رواية العيص على نسخة الكافي نهت عن سؤر الحائض مطلقا ، وعن سؤر الجنب إذا لم تكن مأمونة ، والتفصيل قاطع للشركة ، إذ لو كان النهي عن سؤر الحائض مقّيدًا بكونها غير مأمونة لما كان معنى للتفصيل بينها وبين المرأة الجنب .
وعليه: فمقتضى الصناعة العملية هو الكراهة مطلقا ، نعم إذا كانت مأمونة فالكراهة خفيفة ، وإن لم تكن مأمونة فالكراهة شديدة .
والانصاف: أنّ رواية الكليني لو كانت معتبرة لقلنا : بذلك ، لأنّ التفصيل قاطع للشركة ، وهذه الدلالة قويّة ومتينة ، إلّا أنّك عرفت أنّ رواية الكليني ضعيفة السند فلا يمكن الاعتماد عليها ، والمعتمَد حينئذٍ على نسخة "التهذيب" و"الاستبصار" ، وهي خالية عن لفظة (لا) في أوّل الرواية .
ثمّ إنّ الظاهر جماعة من الاعلام كراهة سؤر الحائض ، أي في الوضوء وغيره من الاستعمالات ، بل ذكر الوحيد البهبهاني أنّ الاقتصار على الوضوء لم يقل به : فقيه ، والظاهر أنّ التعميم محلّ وفاق .
والحمد لله رب العالمين
[1]
- الوسائل باب 7 من أبواب الأسآر ح1
[2]
- الوسائل باب 8 من أبواب الأسآر ح6
[3]
- الوسائل باب 8 من أبواب الأسآر ح 7
[4]
- الوسائل باب 8 من أبواب الأسآر ح 8
[5]
- الوسائل باب 8 من أبواب الأسآر ح 3
[6]
- الوسائل باب 8 من أبواب الأسآر ح 4
[7]
- الوسائل باب 8 من أبواب الأسآر ح 9
[8]
- الوسائل باب 8 من أبواب الأسآر ح 5