الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

33/05/10

بسم الله الرحمن الرحیم

 الفقه \ كتاب الطهارة \ المرق المتنجس بقليل الدم\ تطهيره
 كان الكلام بالنسبة للمرق المنجس بقليل الدم فقال الشهيد يطهر بالغليان بالمشهور واجتنابه احوط
 قال الشيخ في النهاية: ( القِدْر إذا كان يغلي على النار فإن حصل فيها شيء من الدم فإن كان قليلًا ثمّ غلى جاز أكل ما فيها ، لأنّ النار يُحيل الدم ، وإن كان كثيرًا لم يجزْ أكل ما وقع فيه ... ).
  وقال المصنّف في الذكرى: ( أمّا غليان القِدر فغير مطهّر وإن كانت النجاسة دما في الأحوط ، والمشهور الطهارة مع قلّة الدم ، للخبر عن الصادق ، والرضا ، صحّحه بعض الأصحاب ، وطعن فيه الفاضل في المختلف بجهالة بعض رواته ويندفع بالمقبولية ، ونسبه ابن إدريس ¬ إلى الشذوذ - مع اشتهاره - وإلى مخالفة الأصل من طهارة غير العصير بالغليان ، وهو مصادرة والخبر معلل بأن النار تأكل الدم ، ففيه إيماء إلى مساواة العصير في الطهارة بالغليان ولجريان مجرى دم اللحكم الذي لا يكاد ينفك منه والحمل على دم طاهر بعيد ) [1] .
  وقال في الدروس - في كتاب الأطعمة والأشربة في درس المايع والحرام منه ثمانية - : ( ولو وقع دم نجس في قدر تغلي على النار غسل الجامد ، وحرم المائع عند الحلبيين ، وقال الشيخان يحلّ المائع إذا علم زوال عينه بالنار ، وشرط الشيخ قلّة الدم ، وبذلك روايتان لم يثبت صحة سندهما ، مع مخالفتهما للأصل ، ولو وقع في القِدر نجاسة غير الدم ، كالخمر ، لم يطهر بالغيليان إجماعا ، وحرم المرق ... ) .
  أقول: قد استدل للطهارة بعدّة أخبار :
  منها: خبر زكريا بن آدم قال: ( سألت أبا الحسن عن قطرة خمر ، أو نبيذ مسكر ، قطرت في قِدر ، فيه لحم كثير ، ومرَق كثير ، قال : يُهراق المرَق ، أو يطعمه أهل الذمة ، أو الكلب ، واللحم ، اغسله وكُلْه ، قلت : فإنّه قطر فيه الدم ، قال : الدم تأكله النار - إن شاء الله - ، قلت : فخمر أو نبيذ قطر في عجين ، أو دم ، قال : فقال : فسد ، قلت : أبيعه من اليهودي ، والنصارى ، وأبيّن لهم ، قال : نعم ، فإنّهم يستحلّون ىفي شيء من طعامي ) [2]
 وهو ضعيف بجهالة الحسين بن المبارك ، والموجود في الوسائل الحسن بن المبارك ، ولكنّ الصحيح هو الحسين ، لأنّ الحسن غير معنون عند الرجاليين ، ومما يؤيّد ذلك أنّ صاحب الوسائل ذكر هذه الرواية في باب الأشربة المحرمة عن الكليني عن محمد بن يحيى عن محمد بن محمد بن موسى عن الحسين بن المبارك عن زكريا بن آدم ، وهي أيضًا ضعيفة - مضافًا لجهالة الحسين بن المبارك - بمحمد بن موسى ، فإنّه مشترك بين عدّة أشخاص ، فيهم الضعيف ، والمجهول .
 ومنها: صحيح صعيد الأعرج قال: ( سألت أبا عبد الله عن قِدر فيها جزور ، وقع فيها قدر أُوقية من دم أيؤكل ؟ ، قال نعم ، فإنّ النار تأكل الدم ) [3]
 قال العلّامة في المختلف : ( أنّ سعيد الأعرج لا أعرف حاله ، والاحتجاج يتوقف على معرفة عدالته ... ) وفيه: أنّه لا إشكال في السند ، فإن سعيد الأعرج هو نفسه سعيد بن عبد الرحمان الأعرج ، ويُقال له أيضًا : سعيد بن عبد الله الأعرج .
  ومنها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه قال: ( سألته عن قِدر فيها ألف رطل ماء ، يُطبخ فيها لحم ، وقع فيها وقية دم ، هل يصلح أكله ، فقال : إذا طبخ فكُل ، فلا بأس ) [4]
 وأجاب العلّامة في المختلف بحمل الدم على ما ليس بنجس ، كدمّ السمك وشبهه ، ووافقه جماعة من الأعلام .
  أقول: هذا الحمل قريب بالنسبة للصحيحتين ، إذ لو كان السؤال عن طهارة المرَق بالغليان بالنار لكان الأنسب أن يكون التعليل في صحيحة سعيد الأعرج بأن النار مطهرة له ، فتعليله بأنّ الدم تأكله النار - ليذهب التحريم بالاستهلاك - باعتبار أنّ الدم الطاهر يحرم أكله فكان التعليل لأجل التحليل .
  وأمّا بالنسبة لرواية زكريا بن آدم فقد يُقال : بأنّ حمل الدم فيها على الدم الطاهر بعيد ، حيث فرّق فيها بين المسكر والدم ، وقرينة السياق تجعلهما من باب واحد ، وهو النجاسة ، إلّا أنّ التعليل الوارد فيها - وهو أنّ الدم تأكله النار - يُبعد هذا الحمل ، إذ لو كان السؤال عن الطهارة والنجاسة لكان الأنسب في التعليل أن يقال : إنّ النار مطهرة له ، والذي يهوّن الخطب أنّها ضعيفة السند .
  وأمّا قول ابن إدريس بأنّه شاذّ ، ومخالف للأصل من طهارة غير العصير بالغليان ، فنقول :
  إن كان مراده أنّ الخبر شاذّ من حيث النقل ، كما هو ظاهره ، ففيه : أنّ الأمر ليس كذلك ، إذ هو موجود في الكتب المعتبرة ، كـ"الكافي" ، و"الفقيه" ، و"التهذيب" ، و"الاستبصار" ، بل هو مشهور ، كما لا يخفى .
  وإن كان مراده الشذوذ في الحكم ففيه أيضُا : أنّ الأمر ليس كذلك ، لما عرفت أنّ جماعة كثيرة من المتقدّمين حكموا بالطهارة ، بل نسبه المصنف هنا ، وفي "الذكرى" ، إلى المشهور .
  وأما قوله بأنّه مخالف للأصل من طهارة غير العصير بالغليان ففيه - بعد التسليم بأنّ الغليان لا يُطهّر غير العصير - أنّنا نلتزم بالتخصيص ، لأجل هذه الروايات ، وليست هذه القاعدة ، وهي أنّ الغليان لا يطهّر غير العصير ، من القواعد العقليّة حتّى لا تقبل التخصيص ، بل هي كغيرها من القواعد الشرعية القابلة للتخصيص وأمّا الوجه الذي ذكره المصنف في "الذكرى" تعليلًا للحكم بالطهارة ، من أنّه يجري مجرى دم اللحم الذي لا يكاد ينفكّ منه ، فهو في غير محله ، بل هو شبيه بالقياس الذي نفرّ منه كـ "فرارنا من الغنم إذا اشتد بها الذئب" .
  والخلاصة إلى هنا: أنّ الدم المذكور في الروايات محمول على الدم الطاهر ، وعليه فلا يطهُر المرَق المتنجّس بالدم بالغليان بالنار .
  وأما ما ذكره السيد الحكيم في "المستمسك" من أنّ الروايات المذكورة - لو صحّ سندها وتمّت دلالتها - لا مجال للعمل بها ، لأنّ مضمونها من المستنكرات الواضحة عند المتشرّعة ، وهذا هو العمدة في سقوطها عن الحجية
  ففيه: أنّ كون المضمون مستنكرًا عند المتشرّعة ليس حجّة في مقابل الصحيحتين على فرض تماميّة دلالتهما ، لاسيّما أنّه لم يعرض مشهور المتقدمين عن العمل بهذه الأخبار ، فيكون حينئذٍ طرح الحجّة لا حجة ، وهو باطل ، والله العالم .


[1] - ذكرى الشيعة ج 1 ص 75
[2] - الوسائل باب 38 من أبواب النجاسات ح 8
[3] - الوسائل باب 44 من أبواب النجاسات ح 2
[4] - الوسائل باب 44 من أبواب النجاسات ح 3