الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

33/03/21

بسم الله الرحمن الرحیم

 الفقه \ كتاب الطهارة \ ماء البئر\ استحباب التباعد بين البئر والبالوعة
 كان الكلام في استحباب التباعد بين البئر والبالوعة بخمسة اذرع إذا كانت البئر فوق البالوعة أو الأرض صلبة وأما إذا كانت البالوعة أعلى قرارا فبسبعة إلا إذا كانت الأرض صلبة
 ومهما يكن فمستند المشهور هو الجمع بين رواية الحسن بن رباط عن أبي عبد الله ع قال: ( سألته عن البالوعة ، تكون فوق البئر ، قال : إذا كانت فوق البئر فسبعة أذرع ، وإذا كانت أسفل من البئر فخمسة أذرع ، من كل ناحية ، وذلك كثير ) [1]
 ورواية قدامة ابن أبي زيد الجمّاز بعن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله ع قال: ( سألته كم أدنى ما يكون بين البئر - بئر الماء - والبالوعة ، فقال : إن كان سهلا فسبع أذرع ، وإن كان جبلا فخمس أذرع ... ) [2] .
  وجه الاستدلال أنّ في كلّ من الروايتين إطلاقًا من وجه ، وتقييدًا من وجه آخر ، فجُمع بينهما بحمل مطلقهما على مقيّدهما ، بمعنى أنّ السبعة ، التي في الرواية الأولى ، مقيّدة بالخمسة ، التي في الرواية الثانية ، والسبعة ، التي في الثانية ، مقيدة بمورد الخمسة في الرواية الأولى .
  وتكون عندنا ستة صور ، لأنّ الأرض إمّا سهلة أو صلبة ، وعلى كلٍ منهما فالبئر إمّا أعلى قرارًا من البالوعة ، أو بالعكس ، أو متساويان .
 فإذا كانت الأرض صلبة فالصور الثلاث فيها يُستحب التباعد بالخمس ، وهي ما لو كانت البئر أعلى من البالوعة ، أو بالعكس ، أو كانتا متساويتين ، والصورة الرابعة التي يستحب فيها التباعد بالخمس هي ما لو كانت الأرض سهلة ، وكانت البئر أعلى قرارًا من البالوعة ، وأمّا الصورتان الباقيتان ، وهما ما لو كانت الأرض سهلة ، وكانت البالوعة أعلى ، أو متساوية مع البئر قرارًا ، فيستحب التباعد بالسبع .
  ويرد على هذا الاستدلال والجمع :
  أوّلًا: أنّ الروايتين ضعيفتا السند ، أمّا الأُولى فبمحمد بن سنان ، وبجهالة الحسن بن رباط ، وأمَّا الثانية فالإرسال ، وبقدامة بن أبي زيد ، فإنّه مهمل .
  وثانيًا: أنّ بين الروايتين عمومًا من وجه ، لأنّ مورد السبعة في الأُولى كون البالوعة فوق البئر ، سواء أكانت الأرض سهلة أم صلبة ، ومورد السبعة في الثانية سهولة الأرض ، سواء أكانت البالوعة فوق البئر أم لا .
  وعليه ، فالجمع بينهما بحمل مُطلَقهما على مقيّدهما ليس جمعًا عرفيًّا ، بل بينهما تعارض كما إذا كانت الأرض سهلة ، والبالوعة أسفل من البئر ، فمقتضى الرواية الأُولى يُستحب التباعد فيها بالخمس ، ومقتضى الثانية يُستحب بالسبع .
  وكذا يقع التعارض لو كانت الأرض صلبة والبالوعة فوق البئر ، فمقتضى الرواية الأُولى يُستحب التباعد بالسبع ، ومقتضى الثانية يُستحب بالخمس .
  ولا يوجد شيء هنا من المرجّحات المذكورة في باب التعارض والتراجيح ، من المرجّح الصُدوري كالشهرة في الرواية ، والمرجّح المضموني ، والمرجّح الجهتي .
  على أنّ المرجّح الصدوري لم يثبت عندنا ، حيث ذكرنا أنّ المراد بالشهرة المذكورة في الرواية هي الشهرة بالمعنى اللغوي ، وهو الوضوح والعلم ، وتوضيحه في محلّه .
  اللهمّ إلّا أن يُقال : إنّ الحكمة بالتباعد بينهما لَمّا كانت هي الحفاظ على ماء البئر من الاختلاط بماء البالوعة ، لئلّا يتنجّس ، وبما أنّ الأرض الرخوة يسهل السراية فيها ، فاقتضت الحكمة حينئذٍ أن يكون التباعد بالسبع ، بخلاف ما لو كانت الأرض صلبة ، حيث تكون السراية بطيئة جدًّا ، فاقتضت الحكمة أن يكون التباعد بالخمس .
  ولولا حسنة الفُضلاء المتقدّمة لقلنا : إنّ المدار على الاطمئنان الشخصي بعدم وصول ماء البالوعة إلى البئر ، وذلك يختلف باختلاف الآبار ، والبواليع ، من قرب القرار ، وعدمه ، باختلاف الأراضي ، وهذا لا ضابطة له إذ قد نطمئنّ بعدم وصول ماء البالوعة إلى البئر بالتباعد بينهما بذراعين ، وقد لا يحصل الاطمئنان ، إلّا إذا كان بينهما عشرون ذراعًا ، وذلك لاختلاف الأراضي .
  ولكنّ حسنة الفُضلاء المتقدّمة تضمّنت استحباب التباعد بتسعة أذرع إذا كانت البالوعة فوقها ، ولم يعتبر فيها السهولة والصلابة ، ويتعيّن العمل بها لصحتها سندًا ، مع موافقتها للاحتياط
 وأمّا ما حُكي عن ابن الجنيد فقد يُستدل له برواية محمد بن سليمان الديلمي عن أبيه قال: ( سألت أبا عبد الله عن البئر يكون إلى جنبها الكنيف ، فقال لي : إنّ مجرى العيون كلّها من ( مع ) مهبّ الشمال ، فإذا كانت البئر النظيفة فوق الشمال ، والكنيف أسفل منها ، لم يضرّها إذا كان بينهما أذرع ، وإن كان الكنيف فوق النظيفة فلا أقلّ من اثني عشر ذراعا ، وإن كانت تجاهها بحذاء القبلة ، وهما مستويان في مهب الشمال ، فسبعة أذراع ) [3]
  .
 ويرد عليه:
 أوّلًا: أنّها ضعيفة بمحمّد بن سُليمان ، وأبيه ، وبإبراهيم بن إسحاق .
 وثانيًا: أنّ غاية ما تدلّ عليه هذه الرواية هو استحباب التباعد باثني عشر ذراعًا إذا كانت البالوعة في طرف الشمال ، وبأذرع إذا كانت البئر في جهة الشمال ، وبسبعٍ إذا كانت البئر والبالوعة مستويين في الشمال ،
 من غير تعرض للصلابة ، والرخوة ، وفوقية القرار وتحتيته .
  وعليه فلا تدل الرواية على ما نسب إليه ، ثمَّ إنّ جماعة من متأخري المتأخرين ألحقوا بالفوقيّة الحسيّة الفوقية بالجهة ، فحكموا بالاكتفاء بالخمس مع استواء القرارَين ، ورخاوة الأرض ، إذا كانت البئر من جهة الشمال استنادًا إلى هذه الرواية .
  والسرّ فيه أنّ الماء يجري بطبيعته من الشمال إلى الجنوب ، لأنّ الأرض كُرويّة الشكل ، ثلُثاها في الماء تقريبا ، وثلُث منها خارجه ، وهو ما يعبّر عنه باليابسة ، فالماء الذي في الأرض يميل بالطبع إلى الجنوب من كلّ جانب من الأرض ، والشمال من الأرض فوق جنوبها ، لأنّ ابتداء الأرض الخارج من الجنوب متصل بالبحر ، فإذا كانت البئر من جهة الشمال مال الماء بالطبع إلى جهة الجنوب ولا يصعد من الجنوب إلى الشمال إلّا بقاهر يقهره .
  ويؤيّد ما ذُكِر أنّ معظم المعمورة في الشمال ، وانغمار الجنوبي من الأرض في الماء ، ولذا قلنا : إنّ الماء يجري بطبيعته من الشمال إلى الجنوب .
  إن قلت: إن البئر والبالوعة هما معًا في البلاد الشمالية ، فلا معنى حينئذٍ لكون البئر في مهبّ الشمال دون البالوعة ، وبالعكس .
  قلت: المراد بذلك ما كان أقرب إلى ناحية الشمال من الآخر .
  ثمّ إنّ على ما ذكره بعض متأخري المتأخرين - من إلحاق الفوقية بالجهة بالفوقية الحسيّة
 يتحصّل في المسألة أربع وعشرون صورة ، لأنّ البئر والبالوعة :
  إمّا أن يكون امتدادهما بين الشمال والجنوب ، وله صورتان : كون البئر في الشمال ، وعكسه ، أو يكون بين المشرق والمغرب ، وله أيضًا صورتان : كون البئر في المشرق ، وعكسه ، فهذه أربع صور ، ثمّ الأرض إما أن تكون صلبة أو رخوة ، فهذه ثمان صور .
  ثمّ إمّا أن يستوي القراران حسًّا ، أو تكون البئر أعلى ، أو البالوعة أعلى ، فهذه أربع وعشرون صورة في سبع عشر منها يكتفى بالخمس ، وهو صورة الصلابة بأسرها ، وهي اثني عشر ، ويضاف إليها صورة فوقيّة قرار البئر في الأرض السهلة ، ولها أربع بالنسبة إلى الجهة ، لأنّ البئر إمّا أن تكون في الشمال ، أو الجنوب ، أو المشروق ، أو المغرب ، فتكون ستة عشر .
  ويُضاف صورة تساوي القرارَين مع علوّ البئر في الجهة ، لأنّها بمنزلة علوّ القرار ، فتكمل حينئذٍ سبعة عشر والباقية سبع صور يُستحب التباعد فيها بسبع .
  نعم هناك صورة واحدة من هذه الصور المتقدّمة يقع فيها التعارض بين ما ذهب إليه المشهور ، وما ذهب إليه بعض متأخري المتأخرين ، وهي ما لو تساوى القراران ، وكانت الأرض سهلة ، والبئر على جهة ، فإنّه على قول المشهور يُستحب التباعد فيهما بسبع ، وعلى القول الآخر بخمس تنزيلًا لعلوّ الجهة المستفاد من رواية الديلمي منزلة علوّ القرار .
  وبما أنّك عرفت أنّ الروايات كلّها ضعيفة السند فيتعيّن الرجوع حينئذٍ إلى حسنة الفُضلاء المتقدّمة والله العالم .


[1] - الوسائل باب 24 من أبواب الماء المطلق ح 3
[2] - الوسائل باب 24 من أبواب الماء المطلق ح 2
[3] - الوسائل باب9 من أبواب الماء المضاف ح13