الفقه \ كتاب الطهارة \ ماء البئر\ العفو عن المتساقط من الدلو
كان الكلام فيما لو تضاعف السبب تضاعف المنجس فما هو مقتضى الأصل اللفظي وقلنا مقتضى الأصل اللفظي لا يتداخل
ثمّ إنّه قد يُقال: إنّ مسألة النزح غير قابلة لتعدد الجزاء ، لأنّ الأثر الحاصل من هذه الأسباب - أي وقوع الإنسان ، والدم ، والخمر ، وغيرها ، في البئر - واحد ، هو النجاسة ، وهو أمر بسيط غير قابل للتعدد ، والاشتداد ، كالحدث الأصغر ، الحاصل من أسباب مختلفة .
وجوابه يظهر ممّا تقدم في الردّ على المحقّق حيث منعنا كون النجاسة لا تتزايد ، وقلنا : إنّ كثرة الواقع تزيد مقدار النجاسة ، فيزيد شيوعها في الماء ، فيناسبه زيادة النزح .
ومن هنا قلنا : إنّ اختلاف المقدّرات كاشف عن مغايرة مقتضياتها .
إن قلت: بناء على القول بأنّ النزح للتطهير لا معنى للقول بعدم التداخل ، إذ يلزم إذا وقع في البئر إنسان ، وكلب ، أن تكون البئر طاهرة ، إذا نزحنا المقدر للكلب ، ونجسة إذا لم ننزح مِقدار الإنسان ، وهذا غير معقول .
قلت: أنّه لا مانع من ارتفاع النجاسة من جهة دون أخرى ، كارتفاع الحدث من جهة الجنابة دون الحيض فيما لو اجتمعا ، كما ذهب إليه جماعة كثيرة من الأعلام ، واستدلوا لذلك بموثقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله قال :
( سألته عن المرأة يواقعها زوجها ، ثم تحيض قبل أن تغتسل ، قال : إن شاءت أن تغتسل فعلت ، وإن لم تفعل فليس عليها شيء ، فإذا طهُرت اغتسلت غُسلًا واحدًا للحيض ، والجنابة )
[1]
؛ هذا كله بالنسبة لمسألة تداخل الأسباب وعدمه .
وأمّا بالنسبة لتداخل المسبّبات ، وعدمه ، فالإنصاف
أيضًا عدم التداخل لوضوح أنّ تعدد التكليف يقتضي تعدد الامتثال ، والاكتفاء بامتثال واحد عن الجميع يحتاج إلى دليل .
وقد قام الدليل على ذلك في باب الغسل حيث ثبت أنّ الغسل الواحد يُجزي عن الأغسال المتعددة ، وإن كان الغسل المأتي به مستحبًّا ، ففي حسنة زرارة المتقدّمة ، قال :
( إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك - غُسلك ذلك - للجنابة ، والحجامة ، وعرفة ، والنحر ، والذبح ، والزيارة ، فإذا اجتمعت عليك حقوق أجزأ عنك غسل واحد ... )
[2]
وأمّا إذا لم يقم دليل على الاكتفاء بامتثال واحد فلا بدّ من الالتزام بالتعدد .
نعم يستثنى من ذلك صورة واحدة ، وهي ما إذا كان بين الواجبين نسبة العموم والخصوص من وجه ، وكان دليلُ كلٍّ منهما مطلقًا بالإضافة إلى مورد الاجتماع ، فإذا قال المولى : أكرم هاشميًّا ، فجمع العنوانين شخص واحد ، بأن كان عالمًا وهاشميًّا ، فإكرامه حينئذٍ يكون مسقِطا للتكليفَين .
هذا كله بالنسبة للأصل اللفظي .
وأمّا الأصل العملي فإنّ مقتضى الأصل العملي عند الشك في تداخل الأسباب هو التداخل ، لأنّ تأثير السببَين في تكليف واحد متيقن ، وإنّما الشكّ في تكليف آخر ، والأصل براءة الذمة عن هذا التكليف الآخر .
وأمّا بالنسبة للمسبّبات فالأصل فيه يقتضي عدم التداخل ، لأنّه بعد ثبوت التكاليف المتعددة بتعدد الأسباب يُشك في سقوط التكاليف الثابتة لو أتى بفعل واحد ، ومقتضى القاعدة الاشتغال ، فلا يُكتفى بفعل واحد ، والله العالم بحقائق أحكامه
قال المصنف: ( ويُعفى عن المتساقط من الدلو ، وعن جوانبها وحمأتها )
[3]
لا إشكال في العفو عن المتساقط من الدلو بالقدر المعتاد ، سواء أكان المتساقط من الدلو الأخير أم لا ، وذلك للمشقّة والعُسر والحرج ، وهذا واضح .
وأمّا إذا كان المتساقط أزيد من المعتاد قال المصنّف في "الذكرى" : ( ولو انصبّ أزيد من المعتاد كُمّل ، ولو انصبّ بأسره أُعيد مثله - في الأصح - وإن كان الأخير للأصل ... )
[4]
.
أقول: مقتضى الأصل فيما لو انصبّ أزيد من المعتاد دخول المسألة فيما لا نصّ فيه ، وذلك لأنّ الماء المصبوب محكوم بالنجاسة ، وقد وقع في البئر ، فيُنزج له .
ومنه يُعلم حكم ما لو انصبّ بأسره ، ولا فرق في المسألة بين الدلو الأخير ، وبين ما عدا الأخير ، إذ المناط واحد .
وأمّا العفو عن جوانبها ، أي جدرانها ، وعن حمْأتها ، أي طينها ، بعد تمام النزح ، فهو واضح أيضًا ، والمراد أنّ الجدران تصبح طاهرة بعد أن كانت نجسة ، وكذا الحمْأة .
وصريح المحقّق في "المعتبر" والعلّامة في "المنتهى" عدم نجاسة الجدران بماء الدلو ، وعلّلاه بالمشقّة المنفيَّة .
وفيه: ما لا يخفى ، فإنّ المشقة إنّما تحصل إذا لم نحكم بطهارتها بعد تمام النزح ، وأمّا مع الحكم بالطهارة فلا .
وقال المصنّف في "الذكرى" : ( وأجمعوا على طهارة الحمأة والجدران .... ) ، وظاهره طهارتهما بعد الحكم بنجاستهما قبل النزح ، أو قبل إتمامه .
[1]
- الوسائل باب43 من أبواب الماء المطلق ح7
[2]
- الوسائل باب43 من أبواب الماء المطلق ح1
[3]
- الدروس ج 1 ص 120
[4]
- ذكرى الشيعة ج 1 ص 91