الفقه \ كتاب الطهارة \ ماء البئر\ الأدلة
الدليل الرابع: وهو العمدة في المقام -الأخبار الخاصة المستفيضة ، والتي فيها الصحيح ، والموثق ، وغيرهما وهي عديدة
منها: صحيحة ابن بزيع عن الرضا - عليه السلام -
( قال : كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا - عليه السلام - ، فقال : ماء البئر واسع لا يُفسده شيء ، إلَّا أن يتغير ريحه أو طعمه ، فيُنزح منه حتى يذهب الريح ، ويَطيب طعمه ، لأنّ له مادة )
[1]
.
وقوله : ( واسع ) ، أي واسع الحكم ، لا ينفعل بالملاقاة ، سواء أكان الماء قليلا أم كثيرًا ، بخلاف غيره من المياه فإنه مضيّق ، حيث لا ينفعل إذا كان كرا ، وإذا كان أقل من ذلك فينفعل .
وبالجملة فالاستدلال في هذه الصحيحة من نقطتين :
الأولى: قوله - عليه السلام - : ( لا يفسده شيء ) ، فإنّ الظاهر أنّ المراد بالإفساد هنا النجاسة ، ولو قلنا : بعدم الظهور في النجاسة ، وأنّ المراد مطلق الإفساد ، فلا ريب أنّ النجاسة من أفراد الفساد ، والنكرة الواردة في سياق النفي تفيد العموم ، فيكون المنفي جميع أفراد الفساد ، والتي منها النجاسة ، بل هي أظهرها .
الثانية: قوله - عليه السلام - : ( فيُنزح منه حتى يذهب ... إلخ ) ، إذ على تقدير نجاسة الماء فالظاهر أنه لا يكفي في التطهير عند التغيُّر ذهاب الريح ، والطعم ، بل لا بد من
استيفاء المقدّر إذا كان زايدًا عليه ، ومن
نَزْح الجميع ، إذا كان مما يجب نزح الجميع منه .
وإذا تأملت في الصحيحة تجدها صريحة في المطلوب ، للتعليل بكون البئر له مادة ، مضافا إلى حصر التنجيس بالتغيّر .
وأُشكل على هذه الصحيحة بإشكالين :
الأول : من حيث السند ، بأنَّها مكاتبة ، كما عن "المحقق" .
وفيه: أنَّ المكاتبة لا تقصُر عن المشافهة من حيث الحجة والاعتبار ، بل قد يقال : إنّه ليس من المكاتبة ، لأنّ ابن بزيع ذكر أنّه (قال) ، لا أنّه (كتب) ، وإرجاع الضمير إلى غير الإمام - عليه السلام - من الرجل المكتوب إليه بعيد ، لظهور أنّ محمد بن إسماعيل أجلّ من أن ينقل مثل هذه المسألة عن غيره - عليه السلام - ، وأيضًا سوق الكلام ، وقرب المرجع ، ممَّا يؤيّد الرجوع إليه - عليه السلام - .
أضف إلى كلِّ ذلك أنّ "الشيخ" رواها في الاستبصار عن ابن بزيع بلا مكاتبة ، وواسطة ، عن الرضا - عليه السلام - ورواها الشيخ في التهذيب في موضع آخر عن محمد بن إسماعيل عن الرضا بلا مكاتبة ، ورواها "الكليني" أيضًا عن ابن بزيع عن الرضا - عليه السلام - بلا مكاتبة أيضًا .
فلا إشكال حينئذٍ من ناحية السند ،
الثاني: أما الإشكال من حيث الدلالة فقد قال "الشيخ" في "الاستبصار" : ( أنَّه المعنى أنّه لا يُفسده شيء إفسادًا لا يجوز الانتفاع منه ، إلّا بعد نزح جميعه ، إلّا ما يغيّره ، فأمَّا ما لم يتغير فإنّه ينزح منه مقدار وينتفع بالباقي )
[2]
وحاصل إشكاله أنَّه لا يُفسده شيء إفسادًا غير قابل للإصلاح ، وأمّا البئر فتقبل الإصلاح بنزح المقدّرات .
وفيه:
أوّلًا: أنَّ هذا التخصيص خلاف الظاهر جدًّا .
وثانيا: أنّه في صورة التغيّر أيضًا لا يحصل فساد يوجب التعطيل ، إذ يمكن إصلاحه بالنزح ، فلا فرق حينئذٍ بين المستثنى ، والمستثنى منه .
وثالثا: ما ذكره "الهمداني" - رحمه الله - بقوله: ( ولعَمري إنّ طرح الرواية ، وردّ علمها إلى أهله أولى من إبداء هذا النحو من الاحتمالات العقلية التي لا يكاد يحتمل المخاطب إرادتها من الرواية ، خصوصًا في جواب المكاتبة إلخ )
[3]
.
وهناك إشكال ثالث ذكره بعضهم، وهو أنّ الحصر المستفاد منه متروك الظاهر، للقطع بنجاسة الماء مطلقًا بتغيّر لونه.
وفيه: أنّ تغيّر اللون ملازم لتغيّر الطعم، مضافًا إلى أنّ التغيّر باللون أسبق من التغيّر بالطعم والرائحة، فإذا ثبت التغيّر بهما فيكون التغيّر باللون أظهر .
ثُمّ مع قطع النظر عن ذلك ، فإنّ ما ذكر لا يخرجها عن الحجيّة ، وأقصاها أنّها عامّة تُخصَص بما ورد من النجاسة بالتغيّر اللوني .
ومنها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر - عليه السلام -
( قال : سألته عن بئر ماء وقع فيها زبيّل - زبنيل خ ل - ، من عذرة رطبة ، أو يابسة ، أو زبيل من سرقين ، أيصلح الوضوء منها ؟ ، قال : لا بأس )
[4]
.
إشكال
وأجاب بعضهم عن هذه الصحيحة بحمل العذرة على عذرة غير الإنسان ، من الحيوانات الطاهرة ،
وفيه:
أولا: أنّ المصرّح به في كلام أهل اللُغة ، وفي كلام الفقهاء ، أنّ العذرة مخصوصة بغائط الإنسان .
ثانيا: مضافًا إلى أنّ السائل بعد أن سأل عن العذرة سأل أيضًا عن (السرقين) الذي هو مدفوع ما يؤكل لحمه ، فكيف تُحمل العذرة عليه .
وأمَّا احتمال وصول (الزنبيل) إلى الماء دون العذرة ، فهذا عجيب ، بل يستحيل عادة وقوع الزنبيل في الماء وعدم وصول الماء إلى ما في جوفه ، فإنّ (الزنبيل) يصنع من الأوراق ، ونحوها ، وهي لا تكون مانعة أصلًا من وصول الماء إلى ما في جوفه .
أضف إلى ذلك أنّه من غير الممكن أن يسأل علي بن جعفر ، والذي هو من العلماء الفقهاء الأجلاء عن حكم وصول (الزنبيل) خاصّة مع عدم وصول الماء إلى ما في جوفه ، فإنَّ (الزنبيل) طاهر لم تثبت نجاسته العرَضية ، وليس هو أيضًا من أعيان النجاسات .
وأمّا احتمال أن يكون المراد نفي البأس بعد النزح المقدّر .
ففيه
، ما لا يخفى ، فإنّه تخصيص بلا مخصص ، بل هو يشبه الألغاز .
[1]
- الوسائل باب14 من أبواب الماء المطلق ح7 .
[2]
- الاستبصار ج 1 ص 33
[3]
- مصباح الفقيه الهمداني ج 1 ص 32
[4]
- الوسائل باب 14 من أبواب الماء المطلق ح8 .