الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

33/01/16

بسم الله الرحمن الرحیم

 الفقه \ كتاب الطهارة \ الجاري \ تطهير الجاري
 قال الماتن: ( وطهره بتدافعه حتى يزول التغير ) [1]
 لا إشكال بين الأعلام في طهره بذلك ولا يخفى أن اشتراط التدافع حتى يزول التغير إنما هو على رأي من يعتبر الممازجة كالمشهور ومنهم المصنف رحمه الله هنا وفي الذكرى وأما من يكتفي بمجرد الاتصال كما هو الصحيح وقد ذهب إليه جماعة من الأعلام منهم المصنف في اللمعة وأكثر من تأخر عنه، فيكفي حينئذ زوال التغير وإن لم يحصل التدافع.
 هذا وقد نسب إلى بعض القائلين بمجرد الاتصال عدم كفايته هاهنا وذلك لأن الاتصال الذي يكتفي به في التطهير هو ما كان بطريق العلو أو المساواة وليس بمتحقق هاهنا لأن المادة باعتبار خروجها من الأرض لا تكون إلا أسفل منه.
 وفيه: أنه لا دليل على اعتبار الاتصال بطريق العلو أو المساواة بل يكفي بأي كيفية حصل، ثم أنه على تقدير اعتباره فلا تكون المادة الخارجة من الأرض دائما أسفل منه.
 ثم أن الماء المتصل بالمتغير لا فرق فيه بين كونه قليلا أو كرا كما عرفت. نعم مقتضى اشتراط الكرية في الجاري أن لا يطهر المتغير منه بالأقل من الكر كما هو مذهب العلامة ومن تبعه، بل يكون التطهير على مبناه إما بإلقاء كر عليه أو بأن يبقى من غير المتغير مما هو متصل بالمادة مقدار كر فيزول تغيره به.
 ولا يخفى فساده، وإن أردت المزيد من التوضيح فارجع إلى ما ذكرناه في كيفية تطهير القليل حيث قال المصنف رحمه الله هناك: وطهره بإلقاء كر عليه دفعة يزيل تغير
 والخلاصة: إن الاتصال بالماء كاف في حصول الطهارة إذا زال التغير وإن لم يحصل الامتزاج وقد تقدم تفصيل ذلك هناك والله العالم.
 
 قال الماتن: ( ولا يشترط فيه الكرية على الأصح.نعم يشترط دوام النبع ) [2] .
 وقد وافقه على ذلك بعض الأعلام كابن فهد في الموجز. ولكن اختُلف في المراد من هذه العبارة،
 
 معنى دوام النبع
 قال الشهيد الثاني في روض الجنان: أن المراد بدوام النبع عدم الانقطاع في أثناء الزمان ككثير من المياه التي يخرج زمن الشتاء ويجف في الصيف.
 وعن المحقق الكركي في بعض فوائده: إن أكثر المتأخرين عن الشهيد رحمه الله ممن لا تحصيل لهم فهموا هذا المعنى من كلامه وهو منزه عن أن يذهب إلى مثله فإنه قيد لإطلاق النص بمجرد الاستحسان وهو أفحش أغلاط الفقهاء، ثم قال: إنه ليس محط نظر فقيه فيحتاج إلى الكلام عليه والاعتناء به.
 أقول: إن هذا المعنى الذي كره الشهيد الثاني في الروض وإن كان ظاهرا من اللفظ ومتبادر منه عرف إلا أنه لا يمكن أن يكون مراد المصنف هذا المعنى، وذلك لأنه لا شاهد له في الأخبار ولا يساعد عليه الاعتبار، بل قد عرفت أن الأدلة مطلقة، فإن صحيحة ابن بزيع المتقدمة التي هي العمدة في الاستدلال مطلقة حتى لم تقيد المادة فيها بدوام النبع، أضف إلى ذلك أن الدوام بالمعنى المذكور وإن أريد به ما يعم الزمان كله فلا إشكال في بطلانه إذ لا يوجد في المياه الجارية ما يكون كذلك إلا نادرة ومع التسليم فلا سبيل إلى العلم به، وإن كان المراد بعض الزمان فمضافا إلى أنه مجرد تحكم يقع الكلام في تعيين ذلك الوقت وأن الزمان الذي لا بد من أن يستمر الجاري فيه أي زمان؟ والخلاصة إلى هنا: إن هذا المعنى لا يمكن أن يكون مراد المصنف رحمه الله.
 وعن المحقق الكركي: أن المراد بدوام النبع واستمراره حال ملاقاة النجاسة. وتبعه عليه بعض ممن تأخر عنه.
 وهذا المعنى وإن كان خلاف الظاهر من اللفظ إلا أنه في حد نفسه صحيح لأنه إذا كان حال ملاقاة النجاسة غير مستمر النبع جرى عليه حكم المحقون فإن كان الماء كثيرا فلا ينفعل وإلا تنجس.
 والذي يرد على هذا المعنى أيضا أنه ليس فيه زيادة على اصل معنى الجاري وكونه مما له مادة فكيف يكون هو مراد المصنف من هذه العبارة. وقد يوجه كلام المحقق الكركي بأن عدم الانفعال بالملاقاة في قليل الجاري معلق بوجود المادة وعليه فلا بد في الحكم بعدم الانفعال فيه من العلم بوجودها حال ملاقاة النجاسة وربما يتخلف ذلك في بعض أفراد النابع كالقليل الذي يخرج بطريق الترشح فإن العلم بوجود المادة فيه عند ملاقاة النجاسة مشكل لأنه يترشح آنا فآنا فليس له فيما بين الزمانين مادة وهذا يقتضي الشك في وجودها عند الملاقاة فلا يعلم حصول الشرط واللازم من ذلك الحكم بالانفعال بهما عملا بعموم ما دل على انفعال القليل. واشتراط استمرار النبع يخرج مثل هذا ولولاه لكان داخلا في عموم النابع لصدق اسمه عليه.
 وفيه:
  أولا: أنه يمكن إحراز الشرط باستصحاب الاتصال بالمادة وثانيا: لو فرض عدم جريان الاستصحاب باعتبار أنه مسبوق بحالتين متضاربتين أعني الاتصال والانقطاع فنرجع بعد تساقط الاستصحابين غلى استصحاب طهارة الماء قبل الملاقاة ولو سلم عدم جريانه فالمرجع قاعدة الطهارة.
 ثانيا: أضف إلى كل ذلك أنه يصدق عنوان الجاري على الماء المترشح إذ مجرد الفتور لا يخرجه عن صدق الجاري فيكون مشمولا للإطلاقات.
 ثالثا: ثم إنه قد يقال: إن مراد المصنف من هذه العبارة معنى آخر حاصله: أن النبع يقع على وجوه ثلاثة أحدها:

أن ينبع الماء حتى يبلغ حدا معينا ثم يقف ولا ينبع ثانيا إلا بعد إخراج بعض الماء وثانيها:

أن لا ينبع ثانيا غلا بعد حفر جديد كما يتفق ذلك في بعض الأراضي والبلدان. وثالثها:

أن ينبع الماء ولا يقف إلى حد كما في العيون الجارية فإنها مستمرة على النبع. فمراد المصنف باشتراط دوام النبع الصورة الأولى والأخير، أما الصورة الثانية فلا نشك في دخولها تحت الجاري. والإنصاف أنه لم يتضح لنا مراد المصنف رحمه الله من هذه العبارة ولكن الأمر في ذلك سهل بعد معرفة الصحيح من هذه العبارة من فاسدها والله العالم بحقيقة مراده.


[1] - الدروس ج 1 ص 119
[2] - نفس المصدر