الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

32/11/21

بسم الله الرحمن الرحیم

 الفقه \ كتاب الطهارة \ طهارة الماء القليل المتمم كرا \الأدلة \
 كان الكلام في الاستدلال على مبنى المشهور وأنه مائتا وألف رطل عراقي وذكرنا على ذلك أربعة أدلة وناقشناه ووصل بنا الكلام إلى الدليل الرابع وحاصله أن "الماء كله طاهر حتى تعلم أنه قذر " وعلمنا أن الماء ما دون 1200 رطل عراقي قذر فيبقى ما سواه داخلا تحت العام.
 قلنا أن رواية حماد ضعيفة، لكن عندنا رواية أخرى هي موثقة عمار التي تقول:" كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر فإذا علمت فقد قذر وإذا لم تعلم فليس عليك شيء "، وكل شيء هنا يشمل الماء فلا يوجد مشكلة من هذه الجهة.
 هذا الكلام فنيا أي بحسب مقتضى الصناعة العلمية لا يأخذ به، لأنه ورد عندنا عدة أخبار بأن الماء إذا لاقى نجس يتنجس، أي ينفعل ، كما ورد مخصصا منفصلا: أن الماء إذا كان قدر كر لا ينجسه شيء، في صحيحة ابن مسلم، لكن هذا المخصص المنفصل مجمل ما بين الأقل والأكثر ، يدور أمره بين الأقل أي القدر المتيقن وهو الكر المدني فهو كر بالاتفاق والأكثر الذي هو الكر العراقي .
 وإذا كان الأمر كذلك نرجع إلى ما ذكرنا في علم الأصول وعلم الأصول هو الذي يصحح لنا الاستنباط ، لقد ذكرنا في الأصول أنه لدينا أربعة صور للمخصص: فتارة يكون متصل وأخرى يكون منفصلا. ثم تارة يكون الأمر دائرا بين الأقل والأكثر وأخرى بين متباينين.
 المخصص في المقام منفصل ودار الأمر بين الأقل والأكثر، وقد قلنا أنه في مثل هذه الحالة لا يجري إجمال الخاص إلى العام. فمثلا إذا قال المولى: أكرم كل عالم ولا تكرم الفساق منهم، حتما لايكون الفاسق المرتكب للكبيرة مشمولا بوجوب الإكرام، أم المرتكب للصغيرة فيكون مشكوكا وبما أن إجمال الخاص لا يسري إلى العام في المقام يبقى مرتكب الصغيرة داخلا تحت عموم " أكرم كل عالم ".
 بالعودة إلى محل البحث: يوجد عندنا " إذا لاق الماء نجسا يتنجس "، ثم ورد مخصص منفصل: " إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء".
  هنا، ما هو مقدار الكر الذي لا ينجسه شيء؟ هل هو ألف مائتا رطل مدني أو عراقي؟
 القدر المتيقن في المقام هو المدني، فيبقى العراقي مشكوكا، ولما كان المخصص المنفصل الدائر بين الأقل والأكثر هنا مجملا لم يسري إجماله إلى العام، فيبقى العام على عمومه ليشمل هذا المورد المشكوك. وعليه فالماء البالغ ألفا مائتي رطل عراقي ينفعل بملاقاة النجاسة ونحكم بنجاسته.
 أقول : صحيحة ابن مسلم التي أخبرتنا بأن الكر ستمائة رطل أغنتنا عن هذا البحث، فهي صحيحة، كما أن الفقهاء عملوا بها، ولا يمكن حمل الستمائة رطل إلا على الرطل المكي الذي هو ضعف الرطل العراقي. فلا نحتاج إلى دليل آخر لإثبات أن المراد بالرطل في تحديد الكر الوزني هو الرطل العراقي.
 تبقى مسألة قبل أن ننتقل إلى أدلة السيد مرتضى، المشهور قال

: يمكن تصوير المسألة على نحو آخر:
 إن القدر المتيقن عندنا في الكر هو 1200 رطل عراقي والمشكوك هو 1200 رطل مدني لأن الأصل عدم الزيادة.
 نقول: إنما صح هذا الكلام بمقتضى صحيحة ابن مسلم، وإلا لولا هذه الصحيحة لما استطعتم البناء على أن القدر المتيقن هو 1200 رطل عراقي! بل يكون القدر المتيقن حينئذ هو الرطل المدني لا العراقي، إذ انه مع رفع اليد عن هذه الصحيحة يبقى مقدار الكر مجملا بين 1200 رطل مدني و 1200 رطل عراقي فكيف يكون القدر المتيقن هو الرطل العراقي مع أنه ثلثا الرطل المدني؟
 أيضا من جملة أدلتهم على أن الكر هو 1200 رطل عراقي قالوا:
 نحن نشك بانفعال 1200 رطل عراقي بالملاقاة لعدم علمنا بكون هذا المقدار من الماء يدخل تحت الماء القليل أو لا يدخل! وهذه شبهة مصداقية ولا يمكن التمسك بالشبهة المصداقية.
 نقول: نعم لو كان الأمر على هذا النحو في الصورة التي نحن فيها و كان عندنا عام يبين انفعال القليل بملاقاة النجاسة لكان كلامهم في محله، وهو حينئذ نظير قولنا " أكرم كل عالم ثم نشك في أن زيد عالم أم ليس بعالم، نعم هذه شبهة مصداقية ولا يمكن حينئذ التمسك بعموم " أكرم كل عالم " لإكرام زيد!
 لكن لا يوجد في البين مثل هذا العام " الماء القليل ينفعل ..."، وإنما عندنا " الماء إذا لاق نجسا ينفعل " ثم ورد مخصص منفصل " إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء ".
 وبالتالي: فقلة الماء لم تؤخذ في موضوع الانفعال هنا، وإنما أخذ الماء موضوعا لذلك ثم خصص بمخصص منفصل. وبالتالي لا يوجد شبهة مصداقية في المقام.
 وكذلك ببركة صحيحة ابن مسلم لا يوجد لدينا إجمال في معنى الكرية لأنه توضح لدينا من خلال هذه الرواية أن الكر هو 1200 رطل عراقي.
 إلى هنا انتهى الكلام في أدلة المشهور على كون مقدار الكر الوزني هو 1200رطل عراقي، وسننتقل إلى ذكر أدلة السيد المرتضى في المسألة ومن تبعه على أن مقدار الكر هو 1200 رطل مدني:
 الدليل الأول : هو الاحتياط.
 الدليل الثاني : فهو أن الإمام عليه السلام هو من أهل المدينة وينبغي حمل كلامهم على عادة بلدهم. بالإضافة إلى ما تقدم ذكره حول كون الكر مخصصا منفصلا مجملا وأن إجمال الخاص لا يسري إلى العام فيبقى ما هو خارج عن القدر المتيقن داخلا تحت العام. فهذا الدليل من جملة أدلة السيد المرتضى رحمه الله.
 أما الاحتياط:
  أولا : الاحتياط ليس بدليل. نعم قد يكون سبيل النجاة وأنا بعد التتبع وجدت أن أكثر من يعمل بالاحتياط هم الشيعة. وحقيقة الاحتياط هي إدراك الواقع مئة بالمئة، وإلا لا يكون احتياطا، وعليه فمع وجود الشك لا يبقى احتياط. وإنما سمي الاحتياط احتياطا لأنك تدرك الواقع به وهذا هو معنى الاحتياط أصلا.
 أما أنه دليل فالاحتياط ليس بدليل شرعي.
 ثم نحن ذهبنا في الأصول إلى البراءة خلافا للإخباريين.
 إذا فالاحتياط ليس بدليل، يمكنك الاحتياط في الخارج فتحتاط في الكر وأنه 1200 رطل مدني بل 2000 لكن ذلك ليس بدليل!
 وثانيا : هذا الاحتياط معارض باحتياط آخر، وإذا كان معارضا باحتياط آخر لا يكون احتياطا حينئذ.
 فلو لم يكن لدينا ماء للوضوء إلا 1200 رطل عراقي ملاق للنجاسة فما هو مقتضى الاحتياط؟ هل يكون الاحتياط بالوضوء بهذا الماء أم بالعدول عنه إلى التيمم؟
 أما الدليل الثاني
  وهو أن الكلام يحمل على عرف أهل البلد فقد أجبنا عنه سابقا، ومفاده:
 أولا : لا يوجد لدينا أمارة شرعية على أنه يحمل على عرف أهل البلد.
 ثانيا : لم نحرز أن الإمام كان في المدينة حينما تكلم بهذا الكلام.
 إلى هنا تكون نتيجة ما مر هو أن الكر الوزني هو:
 أولا: لا يقل عن 1200 رطل. وثانيا: أن المراد بالرطل الرطل العراقي.
 أما الكر المساحتي
  وهو الطريق المعتمد عادة بين الناس في معرفة الكر لأنه لا يتوفر غالبا آلة يمكن من خلالها وزن الماء -، فقد اختلف به الأعلام على سبعة أقوال:

 القول الأول : وهو المشهور: ما كان كل واحد من طوله وعرضه وعمقه أي أبعاده الثلاثة - ثلاثة أشبار ونصف، أي ما بلغ تكسيره 42 شبرا وسبعة أثمان من الشبر.
 القول الثاني: ما ذهب إليه الشيخ الصدوق وجماعة القميين وغيرهم من أنه ما بلغ 27 شبرا أي ما بلغ كل من أبعاده الثلاثة ثلاثة أشبار.
 وقد اختاره جماعة من المتأخرين، منهم العلامة في المختلف، والمحقق والشهيد الثاني، والمحقق الأردبيلي، والشيخ البهائي.
 القول الثالث: ما بلغ تكسيره مئة شبر. وهو ما حكي عن ابن الجنيد.
 القول الرابع: ما بلغت أبعاده إلى عشرة أشبار ونصف، ولم يعتبر التكسير أصلا بل مجرد الجمع، وقد حكي هذا القول عن قطب الدين الراوندي.
 القول الخامس: ما بلغ تكسير ستة وثلاثين شبرا، وهو ما ذهب إليه المحقق في المعتبر ومال إليه صاحب المدارك.
 القول السادس: ما نسب إلى الشلمغاني من تحديد الكر بما لا يتحرك جنباه عند طرح حجر بوسطه.
 القول السابع: ما حكي عن السيد ابن طاووس وهو العمل بكل ما روي. لكنه بعد التأمل طرح لكل ما روي.
 أما القول الأول : فقد استدلوا عليه بالإجماع المدعى بالغنية.

 ويرد عليه
 أولا : كيف يتم الإجماع مع هذه الأقوال المتعددة.
 وثانيا : قلنا أن الإجماع المنقول بخبر واحد لا يصح الاستدلال به وإنما يصلح كمؤيد فقط.
 أما الدليل الثاني: استدلوا عليه بموثقة أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الكر من الماء كم يكون قدره قال: إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصف في مثله ثلاثة أشبار ونصف في عمقه في الأرض فذلك الكر من الماء " [1] .
 ويرد عليه

 أولا : هذه الموثقة فيها كلام من جهتين:
 من جهة السند: الرواية ضعيفة لأن فيها أحمد بن محمد بن يحيى وهو مجهول. وفيها عثمان بن عيسى الواقفي بل هو عمدة الواقفة هو وزياد القندي وعلي بن أبي حمزة البطائني، وفيها أبو بصير وهو مشترك بين الثقة والضعيف.
 إذا هناك ثلاثة إشكالات في السند.
 أما أحمد بن محمد بن يحيى العطار فقد قلنا سابقا أن هذا الرجل من المعاريف وكثيرا ما يروي عنه الشيخ الصدوق رحمه الله، كما أن حديث الرفع فيه أحمد بن محمد بن يحيى هذا - ولذلك ضعفه السيد الخوئي-.
 هو رجل معروف بين الأعلام بل هو من مشايخ الإجازة ولم يرد فيه إي زم على الإطلاق فمعروفيته كاشفة عن وثاقته.
 ثانيا: ورد على هذا النحو في التهذيب، أما في نسخة الكليني فقد ورد أحمد بن محمد فقط، والذي روى عنه هو محمد ابن يحيى (قال الكليني: عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن عثمان ابن عيسى...) ومحمد بن يحيى غالبا ما يروى عن أحمد بن محمد بن عيسى وليس عن أحمد بن محمد ابن يحيى، وعليه فالمراد هنا من أحمد بن محمد: أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري لأنه أحمد بن محمد بن عيسى كثيرا ما يروي عن عثمان بن عيسى.
 وأحمد بن محمد بن عيسى يروي عنه محمد بن يحيى.
 إذا الأقرب أنه في نسخة التهذيب تصحيف ( نقلنا لكم سابقا عبارة عن صاحب الحدائق، يقول: لا يخفى على من راجع التهذيب وتدبر أخباره لا يخفى ما وقع للشيخ من تحريف وتصحيف في الأخبار سندا ومتنا، وقلما يخلو حديث من أحاديثه من علة في سنده أو في متنه)
 هذا الكلام لصاحب الحدائق وإن كان فيه شيء من المبالغة لكن صحيح في الجملة.
 المشكلة عند الشيخ الطوسي هي سرعة التأليف، وسرعة التأليف تؤدي إلى هفوات، خصوصا إذا كان ذهنه مشغولا ويكتب في علوم شتى ( الأصول، العقائد، الفقه...) فمن الممكن أن يكون حصل تصحيف عند الشيخ في التهذيب وذكر ابن يحيى بدلا من ابن محمد، لذلك قلنا سابقا أن روايات الكافي أضبط وأسلم.
 الخلاصة لا يوجد عندنا مشكلة في أحمد بن محمد.
 وللحديث تتمة
 
 
 
 
 
 


[1] - الوسائل الباب العاشر من أبواب الماء المطلق ح6