درس فلسفة الأصول - الأستاذ رشاد

34/12/01

بسم الله الرحمن الرحیم

موضوع: نظريّة الخطابات القانونية ـ نقد النّظريّة / 9

نعود إلی الفِقرة الثّانية من الجهات الخمس المذکورة ذيل السّادسة، ونرکّز علی تحليل آية 286 من البقرة، وهي «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ».[1]
وقبل الخوض في البحث عن بعض ما يمکن إستظهاره من فِقرات الآية، نذکر بعض النکات الّتي ذکرها المفسّرون فيها أو ينبغي أن يُذکر:
1.الوُسع ما دون الطّاقة، و يسمّى ذلك وسعاً بمعنى أنّه يسع الإنسان و لايضيق عنه[2]والأصل فيه هو السّعة المكانيّة ثم يُتخيَّل لقدرة الإنسان شبهُ الظرفيّة لما يصدر عنه من الأفعال الإختيارية، فما يقدر عليه الإنسان من الأعمال كأنّه تسعُه قدرتُه، و ما لايقدر عليه لاتسعه فانطُبِق عليه معنى الطاقة، ثم سمّيت الطّاقة وُسعاً فقيل: وسع الإنسان أي طاقته و ظرفية قدرته.»[3]
2.بيّن سبحانه أنّه فيما أمَر ونهى، لايكلّف إلّا دون الطاقة، فقال«لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» أي لايأمر و لاينهى أحداً إلّا ما هو له مستطيع.[4]
3.في هذا دلالة على بطلان قول المجبرة في تجويز تكليف العبد ما لايطيقه...[5]
4. وقوله: «رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً» معناه لاتحمل علينا عملاً نَعجِز عن القيام به و لاتعذّبنا بتركه و نقضه.»[6]
5. قوله: «وقالوا سمعنا وأطعنا...» في آية285، من البيّن أنّ الإنسان إنّما يقول: «سمعاً» فيما يمكن أن تقبله نفسه بالفهم، و أمّا ما لايقبل الفهم فلا معنى لإجابته بالسّمع و القبول. و من العمل، فإنّ الإطاعة هي مطاوعة الإنسان، و أمّا ما لايقبل المطاوعة فلايقبل إطاعة و لايتعلّق بذلك تكليفٌ مولويٌّ، فأجابة داعي الحقّ بالسمع و الطاعة لاتتحقّق إلّا في ما هو إختياري للإنسان تتعلّق به قدرتُه، و هو الذي يكسب به الإنسان لنفسه ما ينفعه أو يضرّه، فالكسب نعْم الدّليل على أنّ ما كسَبه الإنسان إنّما وجده و تلبّس به من طريق الوسع و الطاقة. من البيّن أيضا أنّ الإنسان إنّما يقول: «طاعةً» فيما يقبل مطاوعة الجوارح و أدوات...[7]
6. قوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ، كلام جار على سنة الله الجارية بين عباده: أن لايكلّفهم ما ليس في وسعهم من الإيمان بما هو فوق فهمهم و الإطاعة لما هو فوق طاقة قواهم؛ و هي أيضا السنّة الجارية عند العقلاء و ذوي الشعور من خلقه، و هو كلام ينطبق معناه على ما يتضمنه قوله حكايةً عن الرسول و المؤمنين: سَمِعْنا وَ أَطَعْنا من غير زيادة و لا نقيصة.[8]
ويمکن أن يقال أيضاً، إضافهً إلی ما قيل:
7. وزان الآية وزان «لاتَزرُ وازِرةٌ وِزرَ أُخْری»[9] من جهة التأکيد علی توجّه المسؤولية علی کلّ نفس بنفسها، فلهذا قال عقيب کلتا الآيتين:« لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ».
8. إضافة ضمير «وسع» إلی الـ«نفس» تدلّ علی إطلاق القدرة من العلميّ والعمليّ، والجوانحيّ والجوارحيّ.
9. نفي التکليف «الحرجي» و«العسري» و«الضرري»، يدلّ بالفحوی علی تقيّد التکاليف بالقدرة؛ لأنّ الثلاثة المذکورة إنتفت علی الرغم من مقدوريّتها، فإنتفاء ما هو غير المقدور أولی.
10.‌مايُفهم من فِقرة «رَبَّنا وَ لاتُحَمِّلْنا ما لاطاقَةَ لَنا بِهِ»، من جواز تحميل مالاطاقة للعباد به، من العذاب في القيامة عليهم، وعدمِ قبحه؛ لسوء إختيارهم للمقدّماتِ، وبالتّالي: تعدّ العقابات المترتّبة عليها، بما أنّها نتيجة فعلهم مباشراً، کالمقدور لهم، يدلّ علی أنّه لايجوز «تعجيز النّفس» وإنفاء القدرة فإنفاء التکليف من إختيارٍ!
11. المضارع (لايکلّف) يدلّ علی الإستمرار، فهو يدلّ علی کونه سنّةً وعلی کونها جاريةً وشاملةً .
12. التکليف کلفة فتتلازم مع القدرة وإلّا لايمکن حملها.
13. التخصيص و الإستثناء يبرهن القاعدة.
14. إشتراط القدرة يتلائم مع صفاته الجماليّه من الرحمانيّة والرّحيميّة و...، غلبت صفاته الجلاليّة.
15. مداليل الآيات منسجمة مع روح التشريع الرحماني والشريعة السمحاء ولهذا ما من حکم تکليفي إلّا وقد خصّ وقُيّد.


[1] سوره بقره، آيه 286.
[2] تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج2، ص228..
[3] الميزان في تفسير القرآن، العلامةالطباطبائي، ج2، ص443..
[4] تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج2، ص229..
[5] تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج2، ص229..
[6] الميزان في تفسير القرآن، العلامةالطباطبائي، ج2، ص444..
[7] الميزان في تفسير القرآن، العلامة الطباطبائي، ج2، ص446.
[8] الميزان في تفسير القرآن، العلامةالطباطبائي، ج2، ص444..
[9] سوره انعام، آيه164.