41/05/22
موضوع: التعارض/ أحكام التعارض / أحكام التعارض (بيان الأصل عند تعارض الأدلّة).
وكيف كان فالمهم بيان الأصل عند تعارض الأدلّة ، هل هو التساقط أو التخيير أو الاحتياط أو التوقف ؟ احتمالات ، بل أقوال :
القول الأول : الأصل عند التعارض هو التساقط ، ذهب إليه مشهور المتأخرين ، وقد اُستدل له بوجوه :
الوجه الأول : ما ذكره المحقق الخوئي (قدّه) قال : " الأصل في التعارض التساقط وعدم الحجية ، أمّا إذا كان التعارض بين دليلين ثبتت حجيتهما ببناء العقلاء، كما في تعارض ظاهر الآيتين أو ظاهر الخبرين المتواترين ، فواضح ، إذ لم يتحقق بناء من العقلاء على العمل بظاهر كلامٍ يعارضه ظاهر كلامٍ آخر، فتكون الآية التي يعارض ظاهرها بظاهر آية أخرى من المجمل بالعرض، وإن كان مبيناً بالذات ، وكذا الخبر ان المتواتران.
وأمّا إن كان دليل حجية المتعارضين دليلاً لفظياً - كما في البينة - فالوجه في التساقط هو ما ذكرناه في بحث العلم الإجمالي ؛ من أنّ الاحتمالات - المتصّورة بالتصور الأولي - ثلاثة: فأمّا أن يشمل دليل الحجية لكلا المتعارضين. أو لا يشمل شيئا منهما .أو يشمل أحدهما بعينه دون الآخر. ولا يمكن المصير إلى الاحتمال الأول ؛ لعدم إمكان التعبد بالمتعارضين ، فإنّ التعبد بهما يرجع إلى التعبد بالمتناقضين، وهو غير معقول. وكذا الاحتمال الأخير ؛ لبطلان الترجيح بلا مرجح ، فالمتعين هو الاحتمال الثاني.ونظير ذلك ما ذكرناه في بحث العلم الإجمالي من عدم جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي ؛ فإنّ شمول الدليل للطرفين موجب للمخالفة القطعية ، والترخيص في المعصية ، وشموله لأحدهما ترجيح بلا مرجح ، فلم يبق إلاّ عدم الشمول لكليهما"[1] .
وتوضيح مراده: أنّ الدليل الذي يتمسك به لإثبات حجية الدليلين المتعارضين لولا التعارض تارةً ، هو بناء العقلاء الذي هو دليل لبّي لا إطلاق له ، كما في حجية الظهور التي ثبتت أصولياً بالسيرة العقلائية القائمة على العمل به في مقام التخاطب والتفاهم .وأخرى يكون الدليل على حجية المتعارضين لفظياً له إطلاق يشمل حجيتها حتى بعد التعارض بالظهور الأولي ، كما في دليل حجية البيّنة القاضي بإطلاقه حجيتها مع معارضتها بأخرى ، كما في قوله (ع) : " والأشياء كلّها على هذا حتى تستبين أو تقوم به البينة"[2] .
ولا ريب في عدم حجية المتعارضين إذا كان الدليل من قبيل المورد الأول ؛ لأنّ البناء والسيرة العقلائية لا إطلاق لها لكونها دليلاً لبّياً ، ومعه لا يُحرز عمل العقلاء بالظهور في حال معارضته بظهورٍ آخر ، وهذا يفرض التساقط كما لا يخفى .وأمّا إذا كان من قبيل المورد الثاني ، وأنّ لدليل الحجية إطلاقاً لفظياً يقضي بالشمول حتى لمورد التعارض فالأصل هو التساقط أيضاً ؛ وذلك لتكّون علم إجمالي بحجية أحدهما قطعاً ، وبالتالي لا يمكن شمول الحجية لكليهما و إلاّ لزم التعبّد بالضدين أو المتناقضين ، كما لا يمكن إثبات حجية أحدهما بعينه و إلاّ لزم الترجيح بلا مرّجح ، فانحصر الأمر بعدم التعبّد بحجيتهما أو هذا هو التساقط .ويرد عليه :أولاً : صحيح أنّ بناء العقلاء دليل لبّي يُقتصر فيه على القدر المتيقن من حجية العمل بالظاهر ، وهو في غير موارد التعارض ، ولكن في المقابل لا يتبنى العقلاء أبداً التساقط في مورد التعارض بين الظهورين على نحوٍ يُعلم بأنّ للمتكلم تكليفاً بأحدهما أو بهما حتى يتعامل معه معاملة المجمل الساقط عن الحجية ، ويمكن أن يلاحظ ذلك من علاقة الآمرين بالمأمورين ، فلو أنّ مأموراً جاءه خبران عن آمره ، أحدهما يظهر له منه اللزوم ، والآخر يظهر له منه المنع ، فهل يا ترى يسقطهما ويتعامل مع القضية و كأنّه لم يصله شيءٌ بحجة إجمال المراد ؟ أو أنّه يتوقف ريثما يطهر له حال مراده ؟
ثانياً : في الفرض الثاني لا تنحصر الاحتمالات بالثلاثة التي ذكرها ، بل يمكن فرض احتمال رابع لا تصل النوبة معه إلى التساقط ، وهو احتمال حجية أحدهما لا بعينه ، وهو قد يقضي بالتخيير لا بالتساقط ، وهذا المعنى يمكن تصّوره بافتراض أنّ إطلاق دليل الحجية لا يستوجب سقوطه رأساً في فرض التعارض ، وإنّما يُتنازل عن الحصّة غير الممكنة منه ، وهو حجية كليهما معاً القاضي بالتعبّد بالضدين أو النقيضين ، وأمّا حجية أحدهما غير المعيّن فلا يلزم منه محذور التعبّد بالضدين أو النقيضين كما لا يخفى ، غاية الأمر يوكل تشخيص الفرد غير المعيّن إلى اختيار المكلّف ، أو غير ذلك ، وهذا لا مانع منه كما هو ظاهر .
ثالثاً : لنا تحفظ على استحالة الترجيح بلا مرجّح ، وذلك لأنّ الترجيح بلا مرجّح يقع كثيراً من العقلاء ، فمثلاً لو كان أمام الإنسان رغيفان من الخبز على مسافةٍ متساويةٍ من يده ، وكانا يتمتعان بتمام الخصائص فهل هنا ترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجّح قبيح ؟! ولو كان كذلك لوجب أن لا يأكل أبداً ، نعم ترجيح المفضول على الأفضل بلا مرجّح فهو قبيح ، ولكن في فرض المساواة بين الفردين فلماذا الترجيح بلا مرجّح يكون قبيحاً .
وعليه فلماذا الترجيح لأحد الحجتين مع التكافئ من كلّ الجهات من الترجيح القبيح ؟وعليه فما ذكره (قدّه) لا يصلح دليلاً لأصالة تساقط المتعارضين .هذا ولكن للمحقق الصدر (قدّه) في تقريرات أستاذنا المحقق الهاشمي (قدّه) بياناً مختلفاً شيئاً ما عن بيان المصباح ، وإن همّشه عن المصباح > وحاصله :
إنّ إعمال دليل الحجية في المتعارضين يتصوّر بأحد أنحاءٍ أربعة كلّها باطلة ، فلا يبقى إلاّ التساقط .النحو الأول : افتراض شمول دليل الحجية لهما معاً ، وهذا غير معقول ؛ لأدائه إلى التعبّد بالمتعارضين ، وهو مستحيل .
النحو الثاني : افتراض شمول دليل الحجية لواحدٍ منهما بعينه ، وهذا غير معقول أيضاً ، لاستلزامه الترجيح بلا مرجّح .
النحو الثالث : افتراض شمول دليل الحجية لكلٍّ منهما على تقدير عدم الأخذ بالآخر ؛ لأنّ ثبوت الحجية المقيدة في كلٍّ من الطرفين لا محذور فيه، وإنّما المحذور في الحجيتين المطلقتين ، فلا موجب لرفع اليدّ عن أصل دليل الحجية بالنسبة إلى كلٍّ منهما في الجملة ، وإنّما نرفع اليدّ عن إطلاق الحجية فيهما ، وهذه الحالة أيضاً باطلة ؛ لاستلزامها اتصاف كلٍّ منهما بالحجية عند عدم الأخذ بهما معاً ، فيعود محذور التعبّد بالمتعارضين .
النحو الرابع : "افتراض حجية كلٍّ منهما مقيّدة بالأخذ به لا بترك الآخر – دفعاً للمحذور المتجه على النحو السابق – وهذا باطلٌ أيضاً ؛ إذ لازمه أن لا يكون شيءٌ منهما حجة في فرض عدم الأخذ بهما ، فيكون المكلف مطلق العنان بالنسبة إلى الواقع ، ويرجع فيه إلى الأصول اللفظية أو العملية ، وهذا ما لا يلتزم به القائل بالتخيير "[3] .
وأورد عليه المحقق الصدر (قدّه) بأنّه بالإمكان اختيار النحو الرابع والالتزام بالأخذ بحجية كلّ واحدٍ منهما مقيدة بالأخذ به ، ولا يلزم المحذور الذي ذكره (قدّه) وذلك لأننا نتساءل :
هل من المحتمل – بحسب الارتكاز العرفي والشرعي – التفكيك بين حجتين مشروطةٌ كلّ واحدةٍ منهما بالأخذ ، وبين وجوب الأخذ بإحدى هاتين الحجتين ؟فإن كان الانفكاك محتملاً التزمنا بالحجتين المشروطتين تمسكاً بما يمكن من دليل الحجية ولا يلزم محذور ، وإلاّ كان دليل الحجية الصالح لإثبات هاتين الحجتين بالمطابقة دالاً بالالتزام على وجوب الأخذ بأحدهما "[4] .