40/05/13
موضوع: التعارض/ البحث الخارج / تعريف درس البحث الخارج
تمهيد
يحضر الكثير من الإخوة الطلاب الدرس الخارج ، ولكن بعضهم قد لا يدرك حقيقة هذا البحث ومتطلباته والآثار المرتقبة منه ، بل هم فقط يعتبرون الدرس الخارج هو الدرس العالي في الحوزة ، الموصل للاجتهاد .
سنقدم إن شاء الله تعالى تقريباً لهذه الشؤون الثلاثة للبحث الخارج ؛ فنبحث حقيقته ومتطلباته والآثار التي يجب أن يترقبها الطالب من خلال حضوره في هذا الدرس .
تعريف درس البحث الخارجيقال في التعريف الحرفي أنّه : الدرس الذي يكون خارجاً عن كتاب ، فمن المعلوم أنّ الدوس الحوزوية من بدايتها تعتمد دائماً على كتاب بين الطالب والأستاذ ، فعلى المدرس أن يلقي معارف هذا الكتاب وعلى الطالب أن يدرك هذه المعارف ويحولها إلى معلومات قائمة في ذهنه .
حتى أنّ بعض السُنَّتيين([1] ) في الحوزات لا يسمحون للأستاذ بالخروج عن معالم الكتاب إذا اقتضت الضرورة ، كما لو جاء في اللمعة مثلاً أن قال الشهيد الثاني (رحمه الله) : " وهذا الحكم لرواية أبي بصير " ، هنا يمكن للأستاذ أن يأتي بالرواية ولكن دون المناقشة في مضمونها أو سندها ، بل إنّ بعض السُنّتيين يعتبر الخروج عن الكتاب على نحو الإشكال عليه مضرةً للطالب ولمسيرة العلم ، فيقول بعضهم أنّ هذا يؤدي إلى عدم ثقة الطالب بالكتاب إذا استعرض الأستاذ إشكالات على المطالب المذكورة .
وعلى كلّ حال فإنّ دروس الحوزة من ألفها إلى ما قبل البحث الخارج تعتمد على وجود كتاب ، ولم يعهد في حوزاتنا العلمية منذ أيام الشيخ الطوسي المؤسس لحوزة النجف إلى يومنا هذا أن أقيم درسٌ في هذه المراحل من دون كتاب .
لذلك سمي بحثنا هذا خارجاً عن الكتاب لعدم وجود كتابٍ معهود مشترك بين الطالب والأستاذ .
فنستعرض في البحث الخارج كلّ الأدلّة المرتبطة بالمطلب ، فلا يسمى بحثاً خارجاً ذلك الذي تُستعرضُ فيه بعض الأدلّة ، بل لا بدّ من استعراضها كلّها بمناقشاتها الجذرية والركنية للوصول إلى النتيجة القطعية ، وهي الفتوى في البحث الفقهي ، والقاعدة في الدرس الأصولي .
فيجب أن ينتهي أستاذ البحث الخارج إلى قطعية القاعدة إثباتاً أو نفياً ، أو قطعية الفتوى إثباتاً أو نفياً ، لذا قد يستغرق الأستاذ أحياناً أشهراً عديدة في مسألةٍ واحدة ، فيُعبّر بعض الأعلام عن البحث الخارج بالبحث التتبعي ، إذ يتتبع الأستاذ كلّ ما له صلة بالموضوع المطروق حتى يصل إلى النتيجة .
ولذا لا يوجد لدينا بحث خارج في آيات الأحكام ؛ لأنّ دراسة الآيات لا توصل إلى النتيجة النهائية بل إلى ما تدلّ عليه الآية فقط ، أمّا البحث في أنّ الحديث قيّدها أو نسخها ( بناءً على القول أنّ الخبر المتواتر ناسخٌ لظهور الآية )([2] ) فهو يخرج بالبحث عن كونه بحثاً في آيات الأحكام ؛ لأنّنا لو أردنا الوصول إلى نتيجةٍ نهائية للفتوى علينا أن ندرس إلى جانب الآيات الدليل العقلي والسنة وإجماع الفقهاء وما إلى ذلك ، فيخرج الدرس عن كونه درساً في آيات الأحكام .
وكذلك بالنسبة إلى درس فقه الحديث بكلّ تصانيفه ، سواءٌ أكان درساً لفقه الحديث من جهة الدلالة أم من جهة مشكلة الحديث أم غيرها ، لا يوصل إلى النتيجة النهائية إذ يجب أن نضمّ إليه الآيات والإجماعات والدليل العقلي ...إلخ .
من هنا يقولون أنّ البحث الخارج على هذا التعريف لا ينطبق إلاّ على ثلاثة علوم ، وفي غيرها يسمى البحث دراساتٍ ولا يصطلح عليه في العرف الحوزوي بحثاً خارجاً ، وهذه العلوم الثلاثة هي :
أولاً : أصول الفقه : لأنّك تدرس في الأصول كلّ ما من شأنه أن يكون دليلاً على القاعدة سواءٌ أكان الدليل نقلياً أم عقلياً ؛ لذلك لا تعتبر نتيجة البحث في أصول الفقه في القرآن الكريم نتيجةً نهائية بل نتيجةً تصورية ؛ لأنّ الحاكم على قواعد الأصول ليس القرآن فقط ، بل إلى جانبه السّنّة والإجماع والعقل ، فيسمى هذا البحث : دراساتٌ في الأصول القرآنية .
ثانياً : علم الفقه : وهو أعظم من الأصول في دراسة الخارج ؛ لأنّ الأصول تدخل فيه مجموعة من الأدوات وصولاً إلى القاعدة ، بينما نجزم بأنّ الفقه قد تدخل فيه كلّ العلوم الإنسانية في طريق صناعة الفتوى الفقهية ، كاللغة العربية والطّبّ والتاريخ والجغرافيا ...إلخ ، لذا يعتبر البحث الخارج في الفقه أوسع أبحاث الخارج .
ثالثاً : علم الرجال : حيث تنطبق عليه الضابطة ؛ لأنّه دراسةٌ في الأدلّة على وثاقة الراوي وصولاً إلى النتيجة القطعية ، من حيث كون الراوي ثقة أم لا ، والسند معتبراً أم لا ، وتُقدم نتيجتها إلى الفقيه ليتعرف على الروايات المعتبرة من غيرها ، ولكن نهاية البحث الرجالي ليست الوصول إلى الفتوى بل إلى حال الراوي سلباً أو إيجاباً .
إذاً : يعرف البحث الخارج : بأنّه دراسةٌ في الأدلّة ومناقشاتها وصولاً إلى النتيجة القطعية ، وهذه النتيجة في الأصول هي القاعدة القطعية لأنّ علم الأصول درسٌ في الكليات ، والنتيجة في الفقه هي الفتوى القطعية لأنّ الفقه درسٌ في الجزئيات ( وحتى القواعد الفقهية تؤسس لأجل الجزئيات ) والنتيجة في الرجال هي الوصول إلى مفردات السند من حيث الوثاقة وعدمها ، وهذا هو التعريف المدرسي لدرس البحث الخارج .
مقومات دري البحث الخارج :هنالك عدّة أركان لا بدّ أن يلتفت إليها الأستاذ والطالب في درس البحث الخارج :
الركن الأول : النظر الأولي البدوي إلى أدلّة المسألة :فيجب أن ينطلق درس أيّة مسألة في الأصول أو الفقه من النظر التصوري ، فلا ينتقل الباحث مباشرةً إلى التصديقيات ، وهذا النظر الأولي يطلق عليه في عرف البحث الخارج ( تحرير معنى المسألة ).
مثلاً : عندما نبحث في مسألة اجتماع الأمر والنهي في الأصول – وهي تحتلّ مساحةً كبيرةً جداً في الفقه – كما إذا لم يبق من وقت الصلاة إلّا مقدار أدائها والمكلف في الأرض المغصوبة ، فأمر " صلِّ " هو أمرٌ فعلي ، وأمر " لا تغصبْ " أمرٌ فعلي كذلك لأنّه ليس مغيّى يوقت .
فماذا أفعل هنا ؟ هل أقدم الأمر على النهي فأصلي وتسقط حرمة الغصب وإن ارتكبت الحرمة التكليفية ؟ أم أقدم أمر " لا تغصبْ " ويسقط أمر " صلِّ " ؟ أمّا أنّه يتوجه كلاهما إلى المكلف من حيث العمل والامتثال فلا يمكن ، إذ لا تتسع قدرته لأن يصلي ولا يغصب ، فإمّا أن يصلي قيسقط أمر لا تغصب ، وإمّا أن لا يغصب فيسقط أمر " صلِّ ".
فالركن الأول إذاً في البحث الخارج هو تحرير محلّ الإشكال في المسألة ، ويبدو من خلال المتابعة أنّ أكثر إشكالات المستشكلين في المسائل الخلافية تنشأ من عدم فهم محل النزاع ، فلا ينبغي في درس البحث الخارج أن نتكل على دراسات الطالب المسبقة وفهمه المسبق للمسألة ثمّ نراكم عليها الأدلّة والإشكالات ؛ لذالك فإنّ أول ما يجب أن نقوم به في بحثنا – إن شاء الله – هو تحرير محلّ النزاع في المسألة .
الركن الثاني : جمع الأدلّة :لقد منّ الله علينا بعمالقة في الفقه والأصول استطاعوا أن يجمعوا أدلّة كلّ مسألة ، من قبيل الجهد المبارك للمحدث الحرّ العاملي ( رض ) الذي يفوق حدّ التصور ، فقبل وسائل الشيعة كان على الفقيه أن يراجع كتباً كثيرة ليحدد أدلّة المسألة ، وببركات وجود هذا الكتاب الجامع بات يكفي للفقيه تتبعاً – على قول بعض أساطين العلم – أن يراجع المسألة في الوسائل ، حيث قالوا أنّه لا توجد وراء الوسائل رواية يمكن أن تعتبر دليلاً على الحكم الشرعي .
وكذلك الجهد المبارك المتمثل بكتاب جامع أحاديث الشيعة الذي صنّف تحت إشراف المجدد الكبير آية الله السيد محمد حسين البروجردي (قدّه) ، وقد طبع في خمس وثلاثين مجلداً في مختلف فنون الفقه والأصول ، ويمتاز هذا الكتاب عن الوسائل بأنّه في كلّ باب يبدأ ببيان الآيات القرآنية المرتبطة بالباب والدالة عليه سواء بالدلالة النصّية أو الظهورية أو الاستظهارية أو التلميحية ، فيقف المراجع على الآيات الدّالة على المطلب ([3] ).
ثمّ يشرع جامع أحاديث الشيعة بذكر الروايات الصحيحة أولاً ، ثمّ الموثقة ، ثمّ الحسنة ، ثمّ الضعيفة ، وهذا بخلاف مسلك الوسائل حيث يراعي غالباً تقديم رواية الكليني في الكافي مع قطع النظر عن السند بعد كونها معتبرة عنده .
وأنقل عن بعض أساتذتي أنّ السيد البروجردي (قدّه) اعتنى بكون الرواية الأولى – التي تلي الآيات في الباب – صحيحةً وذات دلالةٍ نصيّةٍ أو صريحةٍ أو ظاهرة ، أي أن يبدأ دوماً بالأقوى سنداً و دلالةً ، وهذا عمل ليس بالسهل ، باشره أكثر من ثلاثين مجتهداً تحت يدي آية الله البروجردي لإقامة هذا الصرح العلمي العظيم .
الركن الثالث : تصنيف الأدلّة :فينبغي تصنيف الأدلّة كلٍّ على حدة ، اللفظية على حدة ، والعقلية على حدة ، ثمّ العقلية تصنف إلى استقرائية وقياسية ، وبهذا ترتب القضايا بشكلٍ منطقي .
ونبدأ غالباً في القواعد الأصولية أو الأحكام الفقهية بالدليل اللفظي ، فمشروعنا الدليل اللفظي ، ثمّ بعد ذلك الدليل الشرعي غير اللفظي ، ثمّ الدليل العقلي ، ونحتاط عادةً في الرجوع إلى العقل إلاّ في القضايا التي لا نملك فيها دليلاً شرعياً لفظياً ، أو نسعى بالدليل العقلي لتأييد الدليل اللفظي أو الدليل الشرعي عموماً .
فعندما تقرأ كتب الأصوليين القدامى كالذريعة إلى أصول الشيعة للسيد المرتضى علم الهدى الذي يعتبر أقدم كتابٍ أصولي ، أو كتاب العدّة في الأصول للشيخ الطوسي ، أو كتاب تهذيب الأصول للعلّامة الحلي ، أو كتاب الفصول أو القوانين ، تجدهم غالباً ما يستدلون على القواعد بالادلّة اللفظية ، وحتى منها ما بات الآن يعتبر من القضايا العقلية المحضة ، تراهم هناك يستدلون عليها بالأدلّة الشرعية اللفظية وغير اللفظية .
الركن الرابع : متابعة مناقشات العلماء للتحقيق في دلالة الدليل :لأنّنا عندما نشير إلى دليلية هذه الأدلّة على المطلب لا نقصد الدليل بالدلالة التصديقية بل التصورية ، كما درسنا في اللمعة والمكاسب والحلقات والكفاية والرسائل ، يبدأ المصنف بالدليل ثمّ ينتهي إلى إنكار دليليته ؛ إمّا لأنّه أجنبي عن المطلب أو أخصّ أو أعمّ منه ، أو شيءٌ آخر، فنحن في هذا الركن نستجمع ما يدعى كونه دليلاً ، ثمّ نلاحظ ما قاله علمائنا ، مع الإشارة إلى أنّ العلماء على طبقاتٍ ثلاثة :
طبقات العلماء :1- القدماء : وتبدأ هذه الطبقة من عصر الغيبة إلى عصر الشيخ الطوسي ، الذي يلحقه البعض بالقدماء ، ويعتبره الشيخ الأنصاري خاتمهم ، ويعتبره البعض باكورة المتأخرين ، ويدخل في هذه الطبقة ابن سلار و ابن زهرة و ابن الجنيد و الشيخ الصدوق و والده و الكليني .
2- المتأخرون : بعد الشيخ الطوسي ، ويرى البعض أنّه لا حالة علمية بعد الشيخ الطوسي إلى زمان ابن إدريس ، إذ تعطلت الحركة العلمية في الفقه والأصول بعد الشيخ إلى مائة سنة ، حيث هيمنت أفكاره على عقول الحوزويين ، لذا يعتبر البعض هذا القرن عصر ركودٍ علمي ، إلى أن جاء ابن ادريس الحلّي صاحب كتاب السرائر في الفقه ، وتسنّم مسند التدريس وبدأ بنقد أفكار الشيخ الطوسي([4] ) .
يقولون أنّ تاريخ المتأخرين يبدأ من عصر ابن إدريس الحلّي إلى أن نصل إلى المجدد البهبهاني ، ويدخل في هذه الطبقة : ابن إدريس الحلّي ، و العلّامة الحلّي ، والمحقق الكركي ، والشهيدان الأول والثاني ، وابن سعيد الحلّي ، ومن الإخباريين يدخل المحدّث البحراني صاحب الحدائق ، ومن حوزة كربلاء السيد علي الطباطبائي صاحب الرياض وابنه السيد محمد المجاهد صاحب المصابيح .
3- متأخرو المتأخرين : ويمتد من عصر الشيخ البهبهاني إلى نهاية عصر الشيخ صاحب الكفاية ، ويدخل في هذه الطبقة : المحقق القمّي ، والمحقق صاحب الفصول ، والمجدّد الشيرازي مؤسس حوزة سامراء ، والمحقق النائيني ، والمحقق العراقي ، والمحقق الأصفهاني ، والسيد الأصفهاني ، ويضمّ إليها السيد الخوئي والسيد الشهيد الصدر .