44/11/03
بسم الله الرحمن الرحیم
الموضوع: النواهی / بحوث تمهيديّة في النواهي / إختلاف الأمر والنهی في المتعلقات
قبل أن نباشر في بيان وجه الاختلاف بين الأوامر والنواهي، يجب الالتفات إلى أنّه كما تقدّم في كلمات الشهيد الصدر، لا اختلاف بين القضايا الوجوبيّة والتحريميّة في خصوص انحلالها بعدد أفراد موضوعاتها، فكما ينحلّ الأمر في قضيّة مثل: «أكرم العالم» بعدد أفراد العالم خارجاً، فكذلك النهي ينحلّ في قضيّة مثل «لا تكرم الفاسق» بعدد أفراد الفاسق خارجاً.
فالاختلاف بين الأمر والنهي إذن يكون في متعلّقاتها لا موضوعاتها، بمعنى أنّه في قضيّة: «أكرم العالم» إذا أُكرم زيد العالم، فقد امتثل الأمر في خصوصه، وتحقّقُ امتثال ذلك الأمر لا يحتاج إلى إكرام آخر أو إلى استمرار إكرامه، بينما قضيّة: «لا تكرم الفاسق» لا يتحقّق امتثالها في خصوص عمرو الفاسق إلا بترك إكرامه في جميع الأحوال، فلا يكفي تحقّق مسمّى ترك إكرام عمرو في حالة واحدة لتحقّق امتثال النهي عن إكرامه.
لكن يجب أن نقول في الاستدلال على ذلك: إنّ الأمر والنهي يختلفان من حيث إنّ الأمر يوجب البعث نحو الفعل، وبما أنّ الفعل وجوديّ وجزئيّ بالضرورة ـ لأنّ «الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد» ـ فامتثال الأمر لا يكون إلا بفعل جزئيّ خارجيّ. فإذا أُكرم زيد في المثال المتقدّم في حالة معيّنة، فإكرامه في حالة أُخرى يعتبر فرداً ثانياً من الإكرام يغاير الفرد الأوّل، وبما أنّ توقّف امتثال الأمر على إتيان أكثر من فرد واحد من أفراد الطبيعة المأمور بها يحتاج إلى مؤونة زائدة ـ سواء كان بنحو اعتبر فيه إتيان جميع الأفراد امتثالاً واحداً أو كان امتثال كلّ فرد امتثالاً مستقلاً ـ فإذا لم توجد قرينة، فإطلاق الدليل المقامي كاشف عن تحقّق الامتثال بإتيان فرد من أفراد الطبيعة.
هذا، والحال أنّ النهي يوجب الزجر، وامتثاله يكون بترك الطبيعة وهو أمر عدميّ، وكما يجوز للعدم أن يكون إضافيّاً فكذلك يجوز أن يكون مطلقاً. وبالنتيجة، فامتثال النهي عقلاً يجوز بالعدم الإضافيّ كما يجوز بالعدم المطلق. ولكن بما أنّ تحقّق الامتثال بالعدم الإضافيّ يحتاج إلی مؤونة زائدة، فلا يمكن القول به بدون قرينة. فإذا تعلّق النهي بصرف الطبيعة، فمقتضى إطلاقه المقامي هو لزوم امتثاله بالعدم المطلق وهو في المثال المتقدّم يتحقّق بترك مطلق إكرام عمرو في جميع الآنات والأحوال، فإذا أُكرم عمرو في حالة معيّنة، فقد عصي النهي في خصوص عمرو فيسقط، وإن لم يكن له علاقة ببقاء النهي بالنسبة إلى سائر أفراد الفسّاق.
وبعبارة أُخرى، فإنّ مقتضى إطلاق النهي المتعلّق بالطبيعة، هو ترك الطبيعة المنهيّ عنها في جميع الأحوال على نحو العامّ المجموعيّ، لأنّ عدم الطبيعة المطلق لا يتحقّق إلا بتركها في جميع الأحوال.
فالفرق بين تعلّق النهي بمطلق الطبيعة وإطلاق النهي المتعلّق بطبيعة مطلقة من حيث النتيجة هو أنّ النهي المتعلّق بالطبيعة في الفرض الأوّل لا يسقط بعصيانه في الحالة الأُولى عن الحالة الثانية، فمثلاً لو أُكرم عمرو الفاسق في الزمان الأوّل، فهذا لا يسبّب جواز إكرامه في الزمان الثاني، بل يكون إكرامه في الزمان الثاني أيضاً متعلّقاً للنهي، بينما على الفرض الثاني، فبما أنّ نهياً واحداً تعلّق بمجموع الإكرام في جميع الآنات والأحوال، فإذا عصي النهي في حالة، فمقتضى إطلاقه هو سقوط النهي وعدم المحذور في إكرام عمرو الفاسق في سائر الأزمان.
فدلالة النهي على لزوم ترك جميع أفراد الطبيعة إنّما ينشأ عن إطلاقه لا عن حكم العقل، ولا فرق في ذلك بين أن يكون النهي بصيغة مختصّة بها أو بجملة خبريّة؛ مثل أن يقال: «شرب الخمر حرام».
نعم، إنّ التمسّك بإطلاق الدليل للتوصّل إلى هذه النتيجة في الأوامر والنواهي إنّما يمكن فيما تمّ بيان الوجوب والتحريم بدليل لفظيّ، وأمّا إذا استفيدا من أدلّة لبّيّة، فيمكن الاستدلال على وجه الاكتفاء بإتيان فرد واحد من المتعلّق في الأوامر ولزوم الاجتناب عن جميع الأفراد في النواهي بأنّ الأوامر يلزم فيها من إتيان جميع أفراد الطبيعة المأمور بها إمّا انحلال الأمر بعدد أفراد الطبيعة ـ لأنّ الأمر الواحد ليس له إلا امتثال واحد، وتعدّد الامتثال يتطلّب تعدّد الأمر ـ أو أن يتوقّف امتثال الأمر الواحد على إتيان جميع أفراد الطبيعة المأمور بها، فإذا شكّ في أنّ المتوجّه للمكلّف هل هو أمر واحد لا يترتّب عليه إلا امتثال واحد يسقط بإتيان فرد من أفراد الطبيعة، أو أنّ هناك أوامر متعددة متوجّهة إليه يجب أن يأتي بجميع أفراد الطبيعة لامتثالها، أو أنّ امتثال الأمر الواحد متوقّف على إتيان جميع أفراد الطبيعة المأمور بها، فيمكن التمسّك بالبراءة لنفي توجّه الأكثر من تكليف واحد إلى المكلّف أو نفي توجّه تكليف زائد له.
ولكن تقدّم في النواهي أنّ امتثال النهي كما يمكن بالعدم المطلق فكذلك بالعدم الإضافي، والشكّ في النواهي لا يكون في توجّه تكليف زائد حتّى تجري فيه البراءة، وإنّما في كيفيّة امتثال التكليف المتوجّه للمكلّف، والقدر المتيقّن هو تحقّق امتثال النهي بالعدم المطلق، والمشكوك هو تحقّقه بالعدم الإضافي، فتقتضی قاعدة الاشتغال لزوم الاجتناب عن الطبيعة المنهيّ عنها مطلقاً لامتثال النهي.