44/10/24
بسم الله الرحمن الرحیم
الموضوع: النواهی / بحوث تمهيديّة في النواهي / مدلول صيغة النهي
بحوث تمهيديّة في النواهي
نتناول قبل البحث عن النواهي بحوثاً تمهيديّة:
الأوّل: مدلول صيغة النهي
يرى مشهور الأُصوليّين أنّ النهي يدلّ على طلب الترك، كما أنّ الأمر يدلّ على طلب الفعل، وعليه فإنّ الأمر والنهي مشتركان من حيث المعنى الذي وضعت له هيئتهما، وما يتسبّب في الاختلاف هو متعلّقهما.
ودار بين هذا القسم من الأُصوليّين بحث في أنّ متعلّق النهي هل هو أمر عدميّ ـ بمعنى عدم الفعل أي الترك ـ أو أنّه وجوديّ بمعنى «الكفّ»، والذي تسبّب بهذا الاختلاف إشكال أُورد على تعلّق الطلب بأمر عدميّ من أنّ العدميّ خارج عن اختيار المكلّف فلا يمكن تعلّق الطلب به والبعث نحوه. والدليل عليه أنّ العدم، أمر أزليّ سابق على قدرة المكلّف ولا يمكن للقدرة أن تؤثّر على شيء سابق عليها فتتعلّق به، فلا يمكن إذن تعلّق الطلب بأمر عدميّ.
وأجاب المحقّق الخراسانيّ على هذا الإشكال قائلاً: خروج العدم الأزليّ عن الاختيار لا يعني أنّ العدم خارج عن الاختيار بحسب البقاء والاستمرار أيضاً، وإلا لم يمكن طلب الفعل أيضاً؛ لأنّ الذي كان عدمه خارجاً عن اختيار المكلّف فإيجاده أيضاً لن يدخل تحت اختياره.[1]
والحقّ ما ذهب إليه، فإنّ الفعل والترك نقيضان، فإذا خرج أحدهما عن الاختيار خرج النقيض الآخر أيضاً بالضرورة. ولكن هناك إشكال آخر من أنّ غاية ما يثبت بهذا الاستدلال فهو إمكان تعلّق الطلب بترك الفعل لا تعيّنه.
ومن هنا قال السيّد الروحانيّ في الاستدلال على أنّه إذا أمكن تعلّق الطلب بالترك، تحتّم تعلّقه بالترك ولا يمكن حينئذٍ أن يتعلّق الطلب بالكفّ بأنّ الكفّ أمر نفسانيّ بينما التكليف إذا أمكن تعلّقه بالأُمور الخارجيّة التي تترتّب عليها المصالح والمفاسد، فلا وجه لتعلّقه بالأمر النفسانيّ، والفرض أنّ في ترك الفعل مصلحةً وتعلّق الطلب به ممكن أيضاً، فلا وجه لتعلّق الطلب بالكفّ. ولذلك لم يتوهّم أحد أنّ الأمر قد تعلّق بإرادة الفعل لا نفس الفعل.[2]
غير أنّ بعض متأخّري الأُصوليّين ذهبوا إلى أنّ مدلول النهي ليس طلب الترك وإنّما الزجر عن الفعل، واستدلّوا عليه بأنّ النهي لا ينشأ عن مصلحة لزوميّة في ترك الفعل حتّى يكون تركه مطلوباً، وإنّما عن مفسدة لزوميّة في الفعل تسبّب لزوم الاجتناب والاحتراز عن الفعل، فالاختلاف بين الأمر والنهي على هذا المبنى يكون في مدلول الصيغة لا في متعلّقهما.
ولكنّ السيّد الروحانيّ قال: من الممكن أن نقول بأنّ الذي يتمّ إنشاؤه في النهي هو البعث نحو الترك، بينما ليس المفهوم عرفاً من النهي إلا المنع والزجر ولا دلالة له على البعث والطلب. والوجه فيه أنّ غاية التكليف ـ سواء أکان وجوبيّاً أو تحريميّاً ـ هو جعل الداعي للمكلّف وتحريكه نحو المتعلّق بحيث يصدر المتعلّق منه بإرادته، ومن الواضح أنّ الذي يُقصد إعمال إرادة المكلّف فيه في باب النهي هو الترك وعدم الفعل، ولا يکون النهي ناظراً إلى إعمال الإرادة في الفعل. فحقيقة النهي ليست إلا قصد المولى لتحريك المكلّف لإعمال إرادته في الترك.
ولكن طلب الترك كما قد ينشأ بالمطابقة فكذلك قد ينشأ بواسطة لازمه، أي الانزجار عن الفعل. فالمنشأ الحقيقي في النهي هو إرادة الترك لا المنع من الفعل والمنع إنّما يلازم ترك الفعل الذي هو المتعلّق الحقيقي للتكليف، خلافاً للأمر حيث ينشأ التكليف فيه بمدلوله المطابقيّ.[3]
ولكن يرد عليه أوّلاً: انّه افترض أنّ التكليف معناه جعل الداعي لتحريك المكلّف وبعثه، بينما قد يكون التكليف لجعل الداعي للانزجار ممّا يتحقّق بالمنع والزجر عن الفعل.
وثانياً: إذا أمكن إنشاء التكليف بالمطابقة، فلا وجه لإنشائه من خلال ملزومه، فإذا كانت حقيقة التكليف ترك الفعل، فلا دليل عرفاً على إنشائه بواسطة ملزومه أي الزجر والمنع من الفعل.
وثالثاً: لا تعالج المشكلة في تعلّق الطلب بترك الفعل ـ من أنّ ترك الفعل لا مصلحة له في النواهي حتّى يؤمر به وإنّما الفعل هو الذي يشتمل على مفسدة ـ بهذا البيان، ولا يدفع الإشکال بما ذكره السيّد الروحانيّ من أنّه كما أنّ الفعل ذو المفسدة مكروه للمولى، فترك هذا الفعل أيضاً محبوب للمولى[4] ، إذ تقدّم سابقاً أنّ ملاك جعل الحكم هو المصحلة والمفسدة الموجودة في متعلّق الحكم، لا المحبوبيّة والمبغوضيّة الملازمة لإتيان أو ترك الفعل ذي المصلحة أو الملازمة لترك أو إتيان الفعل ذي المفسدة.
ورابعاً: لا معنى محصّل للبعث نحو أمر عدميّ أساساً، إذ لو دلّ النهي على طلب الترك، لكانت الهيئة دالّة على نسبة بين المطلوب ـ أي ترك الفعل ـ والمطلوب منه، وبما أنّ النسبة متقوّمة بالطرفين، فإذا كان أحد طرفيها معدوماً، لعدمت النسبة أيضاً. نعم، صحيح أنّ مفهوم الأمر العدميّ هو أمر وجودي، ولكن معلوم أيضاً أنّ المراد من طلب ترك الفعل ليس طلب مفهوم الترك، وإنّما طلب الترك نفسه وهو عدميّ.