46/04/23
بسم الله الرحمن الرحیم
الموضوع: القسم والنشوز والشقاق / النشوز / بيان الاستاذ في معنی الآية «قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ»
قال الفخر الرازي في الشطر الثاني من الآية الشريفة: «قوله: «قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ» فيه وجهان:
الأوّل: ﴿قَانِتَاتٌ﴾ أي: مطيعات لله، ﴿حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ﴾ أي: قائمات بحقوق الزوج، وقدّم قضاء حقّ الله ثمّ أتبع ذلك بقضاء حقّ الزوج.
الثاني: أنّ حال المرأة إمّا أن يعتبر عند حضور الزوج أو عند غيبته، أمّا حالها عند حضور الزوج فقد وصفها الله بأنّها قانتة، وأصل القنوت دوام الطاعة، فالمعنى أنّهنّ قيّمات بحقوق أزواجهنّ، وظاهر هذا إخبار، إلّا أنّ المراد منه الأمر بالطاعة.
واعلم أنّ المرأة لا تكون صالحة إلّا إذا كانت مطيعة لزوجها، لأنّ الله تعالى قال: ﴿فَالصَّالِحَاتُ قانِتاتٌ﴾ والألف واللام في الجمع يفيد الاستغراق، فهذا يقتضي أنّ كلّ امرأة تكون صالحة فهي لابدّ وأن تكون قانتة مطيعة...
وأمّا حال المرأة عند غيبة الزوج فقد وصفها الله تعالى بقوله: ﴿حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ﴾. واعلم أنّ الغيب خلاف الشهادة، والمعنى: كونهنّ حافظات بمواجب الغيب، وذلك من وجوه:
أحدها: أنّها تحفظ نفسها عن الزنا لئلا يلحق الزوج العار بسبب زناها، ولئلا يلتحق به الولد المتكوّن من نطفة غيره. وثانيها: حفظ ماله عن الضياع. وثالثها: حفظ منزله عمّا لا ينبغي...
المسألة الثالثة: ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾ فيه وجهان:
الأوّل: بمعنى «الذي» والعائد إليه محذوف، والتقدير: «بما حفظه الله لهنّ»، والمعنى أنّ عليهنّ أن يحفظن حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله حقوقهنّ على أزواجهنّ حيث أمرهم بالعدل عليهنّ وإمساكهنّ بالمعروف وإعطائهنّ أُجورهنّ. فقوله: ﴿بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾ يجري مجرى ما يقال: «هذا بذاك»، أي: هذا في مقابلة ذاك.
والوجه الثاني: أن تكون ﴿مَا﴾ مصدريّة، والتقدير: «بحفظ الله»، وعلى هذا التقدير ففيه وجهان:
الأوّل: أنّهنّ حافظات للغيب بما حفظ الله إيّاهنّ، أي لا يتيسّر لهنّ حفظ إلا بتوفيق الله، فيكون هذا من باب إضافة المصدر إلى الفاعل.
والثاني: أنّ المعنى هو أنّ المرأة إنّما تكون حافظة للغيب بسبب حفظهنّ الله، أي بسبب حفظهنّ حدود الله وأوامره، فإنّ المرأة لولا أنّها تحاول رعاية تكاليف الله وتجتهد في حفظ أوامره، لما اطاعت زوجها، وهذا الوجه يكون من باب إضافة المصدر إلى المفعول.»[1]
غير أنّ الذي يمكن قوله في خصوص المعنى المراد منه في الآية الشريفة هو أنّ الله تعالى بعد بيان أمر طبيعيّ وتكوينيّ في صدر الآية، ابتدر ببيان حكم تشريعي متعلّق بعلاقات الزوجين المبنيّة على ذاك الأمر التكويني، وذكر سبحانه مقدّمة أُخرى لبيان هذا المطلب ممّا ذكر في ضمنه خصائص النساء الصالحات، وأُولاها القنوت.
وذكرت للقنوت عدّة معانٍ في اللغة؛ منها: الطاعة، والخشوع، والصلاة، والدعاء، والعبادة، والقيام، وطول القيام، والصمت، وغيرها. والمراد منه في الآية الشريفة نظراً إلى سياقها وملاحظة أنّ هذه المفردة في مقام التمهيد لبيان حكم تشريعي، هو معنى الطاعة للأوامر الإلهيّة محضاً والالتفات إلى أنّ هذه القوانين قائمة على مصالح الإنسان وحكمة الله تعالى.
فما احتلمه الفخر الرازي من أن يكون المراد من «القانتة» الزوجة التي تطيع زوجها في حضره، ممّا لا يمكن الالتزام به، لأنّ القنوت هو الطاعة محضاً ممّا يختصّ بالله عزّ وجلّ.
والصفة التالية التي ذكرتها الآية الشريفة للنساءالصالحات ـ بالنظر إلى أنّ الوارد بعد ذلك في الآية من الأُمور المرتبطة بعلاقات الزوجين ممّا يسبّب ترجمة هذا الشطر من الآية في السياق نفسه ـ هي حفظهنّ لما يودعه الزوج عندهنّ، سواء أكان معلومات من الزوج لدى الزوجة، أو حفظها للأسرار، أو ما يتعلّق بحفظها للعِرض والممتلكات أو الأشخاص الذين أوكلت الزوجةُ حفظهم في غياب الزوج.
والوجه في ذكر الآية الشريفة لهذه الصفة من جملة جميع الصفات المطلوب وجودها في المرأة الصالحة هو أنّ الآية في مقام بيان الأحكام المرتبطة بالزوجين، ومن أهمّ شروط بقاء الزوجيّة هو إمكان الوثوق حيث إنّ استمرار الزوجيّة مع الشخص المطعون في وثوقه يكاد يكون ممتنعاً، ولذلك فإنّ الله تعالى اختار هذا الوصف في الآية الشريفة من بين الكثير من أوصاف النساء الصالحات وشدّد عليه.
وأمّا قوله تعالى: ﴿بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾ فالظاهر منه أنّ الباء للملابسة والملاصقة، و«ما» مصدريّة، فيكون معناها أنّ حفاظ النساء لما يجب عليهنّ حفظه في غياب الزوج ملاصق ومرافق لأمر الله بالحفظ. وعليه فإذا لم يكن الله تعالى أمر بحفظ شيء بل أمر بإفشائه ـ كما لو عزم الزوج على التواطؤ ضدّ المجتمع الإسلامي أو التجسّس لصالح أعداء الدين وعلمت زوجته بذلك ـ حيث لا يجب عليها المحافظة على ذلك ولا كتمان السرّ بالنسبة إليه، وإنّما يجب عليها إفشاء هذا السرّ درءاً للفتنة.