46/03/21
الموضوع: مثيرات العقل
تمهيد (١):
لو كان هناك رجلان أحدهما فاقدٌ لبصره لا يرى شيئاً، والآخر بصير ولكنه لا يستفيد من عينه، فيا ترى أيهما أسوأ حالاً ؟ لا شك أن الناس إذا قارنوا بينهما فإنهم لن يلوموا فاقد البصر في حال اصطدم بهم، بينما يلومون ذلك البصير وربما يقولون له أنت اعمى؟ ألا ترى الطريق؟
كذلك الحال فيمن أوتي العلم ولم يعمل به فإنه أسوأ حالاً من الذي لم يُؤتَ علماً؛ لأنه قد يعذر ، جاء في الشعر المنسوب إلى الإمام الصادق عليه السلام قوله:
درب المحجة واضح لمريدها
والناس عن درب المحجة في عمى
ولقد عجبت لهالك ونجاته
موجودة ولقد عجبت لمن نجا
تمهيد (٢) كيف يثار العقل؟
كما أن جسم الإنسان يتحرك للطعام عند اشتمام رائحته والعطشان يتحرك الى الماء عندما يراه، ويتحرك من أجل ذلك ويسعى إليه، وكذلك عقل الإنسان فإنه حينما يُدفن تحت ركام الجهل والأهواء والشهوات بحاجة الى مثير يرفع هذا الركام عن عقله ويزيح الحجب والغشاوات عنه، فيا تُرى ما هي هذه المثيرات التي تثيره وتنتشله من تحت هذا الركام.
نظرية المعرفة في القرآن
خلافاً لكل النظريات البشرية حول منبع التفكير السليم والذي يتناغم مع فطرة الإنسان وذلك لمعرفة الحقائق، فإن القرآن الكريم يبين منهجاً شافياً لا غموض فيقول بأن الآيات التي فيها (ذكرى وتذكرة وتذكر) هي نفسها نظرية المعرفة القرآنية التي تتكئ على قاعدة أن الإنسان قبل أن يأتي إلى هذا العالم قد أودع الله فيه أصول العلم وجوامع الحكمة بصورة اجمالية، في عالم سُمي بعالم الذر الذي قال عنه سبحانه وتعالى: ﴿واذ اخذ ربك من بني ادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى﴾ ولكن الإنسان نسيَ هذا العالم وثبتت المعرفة في قلبه، كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام حينما سأله زرارة عن تفسير الآية المتقدمة فقال عليه السلام: «ثبتت المعرفة في قلوبهم ونسوا الموقف وسيذكرونه يوما ولولا ذلك لم يدرِ أحد من خالقه ولا من رازقه»، ثم حينما ننظر في آيات القرآن المباركة نجد أن الرب تبارك وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه واله: (فذكر انما انت مذكر) وهل يذكر الانسان إلا شيئا منسياً؟ وورد عن امير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة تأكيداً على هذه الحقائق حيث قال عليه السلام: (فبعث الله إليهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته ويحتج عليهم بالتبليغ)، ولكن السؤال من هو الذي يتذكر؟ سبق وأن أشرنا إلى أن معادلة السعي والرزق تنسحب على الجوانب المعنوية، والتي منها السعي المعرفي المرتبط بالعقل مما يعني أن الذي يتذكر هو الذي يسعى للإستفادة من عقله وإيقاظه من سباته وذلك من خلال تذكر آيات الله تعالى في نفسه وفي الآفاق.
أولوا الألباب مثال المتذكرين
وهكذا نجد أن أولي الألباب هم المثال الحقيقي لمن تتجلى فهم السنن واستزاد من تفعيل عقله من خلالها في التفكر والتأمل والتسليم للحق، ولذا نجد أن الله سبحانه وتعالى قد مدحهم في كتابه بقوله: ﴿أفمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى أنما يتذكر أولوا الألباب﴾
وهذه الآية تهدينا إلى أن الذي يعلم ويعمل بعلمه يختلف عن من يعلم ولا يعمل بعلمه، ويبدو أن من عَلِمَ ثم عمل بعلمه قد مارس التعقل واستثار ما بداخله من خلال مطابقتها بالوحي، بخلاف من لم يبذل أي جهد لتحقيق ذلك، فمثل هؤلاء كمثل توأمين ولدا معاً في يوم واحد، أحدهم مارس الرياضة حتى أصبح ذا عضلات، والآخر لم يقم بشيء ولم يصبح ذي عضلات، فهل هما سواء؟ بالطبع كلا .
وهذا يؤكد ما نراه في أن الإنسان كلما استفاد من النعم التي تعطى له كلما ازدادت أكثر وأكثر، مما يدلل أن هناك علاقة تفاعلية بين عقل الإنسان وعمله وعندما يتفقان يزداد العقل.
ما هي الافعال التي تزيد العقل؟
أولاً:من العقل الوفاء بالعهد
قال تعالى: ﴿الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق﴾.
بصائر الاية:
الأولى: قيمة المرء في علاقته مع الله ومع الخلق في كلمته التي التزم بها، فعليه الوفاء بما التزم به.
الثانية: مثل العهد كمثل الشجرة التي تُظلل حياة الإنسان في علاقاته مع المؤمنين وتبقى في ذمته والعاقل هو الذي لا يفرط في العهد ولا يخالفه.
الثالثة: قد يكون الميثاق مع مجموع من البشر عند اتفاقهم على امر معين فيما بينهم، كما هو حال مواثيق الأمم في زماننا أو ما شابه، وقد يكون هذا الميثاق مع الله سبحانه وتعالى كما حدث في عالم الذر والميثاق الذي اخذه الله من البشر حينما قال: ألست بربكم؟ قالوا بلى، وقد يكون مع الخلق لكن بأمر الله كما حدث في يوم الغدير حينما أُخذت البيعة لأمير المؤمنين عليه السلام.
ثانياً: من العقل صلة الرحم
قال تعالى: ﴿والذين يصلون ما أمر الله به ان يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب﴾
بصيرة الآية
يختلف منهج القرآن الكريم في معرفة العقل تماماً عن المناهج البشرية؛ وذلك لأن المنهج القرآني يردم الفجوات التي تركتها وتتركها المناهج البشرية كمناطق فراغ، فمن العقل في منطق القرآن الكريم هو صلة الرحم كتطبيق وسلوك في الواقع ، سواءٌ كانت مع قرابات الإنسان أو قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعتبارهم أعظم رحم تجب صلته، والرسول صلى الله عليه وآله أكد في كثير من المناسبات على هذه المسألة، ومن ذلك ما قاله (ص): أنا وعلي أبوا هذه الأمة وفي المقابل نجد النهي الشديد في مصاحبة ومصادقة قاطع الرحم كما ورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام حينما قال: وإياك ومصاحبة القاطع لرحمه فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله عز وجل في ثلاثة مواضع قال الله عز وجل: «فهل عسيتم ان توليتم ان تفسدوا في الارض وتقطعوا ارحامكم اولئك لعنهم الله فاصمهم واعمى ابصارهم) وقال تعالى: (ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما امر الله به ان يوصل ويفسدون في الارض اولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار»وقال في البقرة ﴿الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما امر الله به ان ويفسدون في الارض اولئك هم الخاسرون﴾.
مما يعني أن العاقل هو الذي ينتهج نهج الله ونهج رسوله صلى الله عليه واله ولا يبحث عما يخرجه من هذا النهج لأن اللعن في حقيقته هو الخروج من رحمة الله والإنتقال إلى الصف الذي فيه إبليس اللعين، الذي عهد الله سبحانه وتعالى إلينا بمخالفته فأي عاقل يصف مصاف إبليس؟