الأستاذ السید محمدتقی المدرسي
التفسير

46/03/14

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأهداف العليا للنعم

بصيرتان:

الأولى: إن ورود كلمة "لعل" وتكرارها في جملة من آيات القرآن الكريم قد تدل على أن هناك هدفاً متوخى تحقيقه من الخلق وعليهم السعي من أجله، ولكن السؤال الذي يتبادر هل أن المطلوب تحقيق هذه الأهداف جميعاً على وجهها المطلوب؟

الظاهر أن الأمر ليس كذلك لأن كلمة "لعل" تفيد الترجي، وما دامت كذلك فإن على الإنسان أن يسعي بقدر جهده، قال الشاعر:

على المرء أن يسعى بمقدار جهده *** وليس عليه أن يكون موفقاً

وإرادة الرب سبحانه وتعالى هي التي تقدر بحكمته الغايات فالصيام وسيلة للتقوى والحج وسيلة للتزود من التقوى، وأما مسالة تحقيقها من المكلفين فهو أمر ٌ آخر وما على الإنسان فعله سوى تهيئة الوسائل، لأن عدد من يصوم ـ كما نعلم كثير ـ ولكن عدد الذين يصلون الى مراتب عليا في سُلّم التقوى قليل، وقد ورد في الحديث انه: كم من صائم ليس له من صيامه الا الجوع والعطش، كذلك عدد من يذهب إلى حج بيت الله الحرام كثيرون، ولكن ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج بإعتبار أنهم كثيرون لكن من يحج بكامل حدود الحج هم قليل.

الثانية: يبدو أن المشكلة تكمن في أن من يقرأ القرآن الكريم يقرأه قراءه لا ترتبط به بواقعه كأن يقرأ آيات القرآن قراءة كأنها لا تعنيه لأنها نزلت في شخصٍ غيره مع أن القرآن الكريم نزل بلغه : إياك أعني وأسمعي يا جاره كما جاء في الحديث الشريف وهذا يعني أن علينا تفعيل القرآن عبر ممارسة التأويل على النفس عند القراءة فلو قرأنا مثلاً قول الله سبحانه وتعالى:

﴿من المؤمنين رجال من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا﴾، يتذكر أنها نزلت في الأمام علي عليه السلام وعمه سيد الشهداء حمزة عليه السلام، إلا أنه يمكن تطبيقها على من فعل مثل ما فعلوه استناداً إلى قول الإمام عليه السلام: ان القران الكريم له ظهر وبطن، فظهر القرآن من نزل فيهم وبطنه من عمل بعملهم

أهداف النعم القريبة منا:

ذكرت سورة النحل المباركة مجموعه من الأهداف المرتبطة بالهداية وجعلتها علامات ومراحل يتدرج العقلاء عبرها لبلوغ كمالات الهداية:

مرحلة التفكر

قال تعالى: ﴿هو الذي انزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والاعناب ومن كل الثمرات ان في ذلك لايه لقوم يتفكرون﴾ بصائر من الآية

من ينظر الى أجزاء السيارة المختلفة في الطول والعرض والشكل وبعد أن يربط بين هذه الأجزاء المتناثرة ببعضها فتصبح مكينة تتحرك يصل إلى أن من صنعها أراد بذلك هدفاً معيناً، كذلك الحال حينما يمر الإنسان عبر الحقول والبساتين ويرى الأشجار والأثمار المختلفة فيها، فأمامه خياران فإما أن يكون غافلا ولا يزداد شيئاً من هذا المرور أو أن يربط بين ما تراه عينه وبين المدبر العظيم لهذه الخليقة، وذلك من خلال أن هذه الثمار المختلفة هي في نهاية المطاف تحقق هدفاً واحداً يتعلق بحاجات الإنسان المتصلة ببدنه وجسمه، ويعلم أيضاً أن الخالق المدبر سخر كل هذا الكون الفسيح العريض لأجله، وأن هذا البستان المليء بالأشجار المتشابهة أو المختلفة والملونة جعلها الله لأجل هذا الإنسان حتى يتفكر بعقله في هذه الأمور؛ والتفكر في حقيقته هو إثارة المعلومات الموجودة لدى الإنسان وربطها ببعضها، وهذه الآية ذكرتنا بنزول المطر ونبات الأرض ونمو الأشجار المختلفة ببركه الماء، وهذه كلها أمور معروفه لدى الإنسان، لكن الآية وردت بصيغة المضارع الذي يدل على التكرار وإستمراريته في الحال والاستقبال.

مرحله التعقل

قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾

بصيره الآيه:

تستمر الآيات في بيان ما سخره الله سبحانه وتعالى مُذكّرةً بجملة من الآيات التي جعلها الله سبحانه وتعالى واضحة كالتذكير بالليل والنهار والشمس والقمر والنجوم التي سخرها بأمره وبمشيئته، وتريد من الإنسان أن يدير هذه المعلومات إدارة معرفية يمكن أن تكامل شخصيته مثل أولئك الذين قال الله سبحانه وتعالى حكاية عنهم حينما نظروا إلى آيات الله في السماء والأرض: ﴿ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار﴾، والإنسان محتاج لليل كما هو محتاج أيضا للنهار ومحتاج للشمس كحاجته للقمر والنجوم.

مرحله التذكر:

قال تعالى: وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ

بصيره الآية:

في هذه المرحلة تذكر الآية الإنسان بالأمور التي أودعت في وجدانه من قبل لكنه نساها بالرغم من انها آيات واضحات ولا يحتاج إلى شيء سوى تذكيره بها ، فهل أن إختلاف ألوان هذه الأمور وهذه المخلوقات وهذه الأشياء غير واضحة أم أنها لشدة وضوحها لم يتذكرها، كما أن إختلاف الناس والأحياء والزروع والثمار دليل على أن الكل لديه فائدة ولديه ميزه تميزه عن غيره وتغطي جانباً من جوانب الخليقة المترامية الأطراف ليس فقط فيما يرتبط بالإنسان وحده وإنما لكل الخليقة.

مرحلة الشكر

قال تعالى: ﴿وهْوَ الَّذِي سَخَّرَ البَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنهُ لَحْمًا طَرِيًّا وتَسْتَخْرِجُوا مِنهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وتَرى الفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ ولِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ولَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾

ببصيرة الآية:

تستمر الآيات المباركة بتقديم برنامجها الذي من المرجو أن يتحقق وهو الشكر لمن أنعم عليه وأنه لا يختلف عليه العقلاء، لكن المشكلة تكمن في أن تكرار الإنعام والعطاء وكثرته في كافه النواحي قد يُنسى الانسان أو يجعله غافلاً، من هنا جاءت الآية تزيدنا بصيرةً في حياتنا كما أن تذكر النعم وشكر المنعم قد يخلص الإنسان من الكآبة والقلق الذي قد يسيطر عليه عند فقده أو تأخر حصوله على ما يتمناه، وذلك بأن ينظر إلى من هم دونه حالاً ويشكر الله على النعم التي هو فيها والآية هنا جاءت مذكرة بنعمة واحدة تُعتبر منبعاً لجملة هائلة من النعم التي لا تحصى ألا وهي نعمة البحر وما يتصل به من حقائق ونعم.

 

مرحلة الإهتداء

قال تعالى: ﴿وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون ﴾

مرحلة الإهتداء بعد أن تفكر الإنسان ثم تعقل ثم تذكر ثم شكر فإن النتيجة النهائية الإهتداء وبالتالي معرفة الهدف النهائي للحياة وبالتالي معرفة ما الذي يجري حوله؟ وما الذي يراد منه؟ وبما أن الجبال والأنهار تمثل علامات وسبل لحركة البشر فيما يرتبط بأمورهم الحياتية، فكذلك الأنبياء والأولياء هم بمثابة العلامات التي جعلها الله سبحانه وتعالى للبشر في مسيرتهم وفي كدحهم الى الله سبحانه وتعالى، وهذا ما اشارت إليه الرواية الواردة عن الامام الكاظم عليه السلام حينما قال في تفسير هذه الآية المباركة: نحن العلامات والنجم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم.