46/03/13
الموضوع: العقلاء والحقائق الكبرى
الهدفية من صفات العقلاء
اذا رأيت انسانا يتحرك في طريق من دون ان يعرف الى اين يتجه فاعلم بأنه لا يزداد بكثرة المشي إلا بعداً عن هدفه وهذا يعني أن على كل إنسان أن يتحرى الهدف قبل أن يباشر الإقدام على اي خطوة يخطوها، فمن أراد البناء فإنه يرجع إلى المهندس لكي يضع له خارطة البناء، وهكذا مثلاً إذا أراد الجيش القيام بتحرك عسكري فعليه قبل أن يقوم بهذا التحرك بوضع خطة مسبقة، وهكذا في بقية الأمور فإن معرفه الهدف أمرٌ أساسي، ولكن الإنسان وبسبب محدودية نظره لما يجري حوله ينشغل عادةً بالتفاصيل وينسى الحقائق الكبرى مما يجعله يفقد الإتجاه إلى غايته وهذا ليس من العقل في شيء لأن العقل يهدي صاحب إلى معرفة الحقائق الكبرى والتي منها ما هو سبب مجيئه إلى هذه الحياة؟ وما الذي يراد منه؟ وما هو مسيره؟ وإلى أين مصيره؟
الغريب في الأمر أن الكثير من الناس يعزفون عن تناول هذه المواضيع لأنها تفرض عليهم تحمل المسؤوليات، والتي منها مسؤوليه إصلاح أنفسهم وتغييرها، ومسؤوليتهم كذلك تجاه الآخرين، وبالتذكر نتنبه إلى أن الأمور الواضحة والبديهية لا تحتاج إلى أكثر من إلفات نظر إليها هي أن هذا العالم الكبير وما فيه من جزئيات صغيرة خلق بحكمة بالغة ولأجل هدف دقيق، ولكن الإنسان قد يغفل عنها ويغفل عن نفسه التي هي أقرب الأشياء إليه ومن أبرز الأمثلة على ذلك أن الإنسان قد يذهب إلى الطبيب مثلاً فيحدثه عن أحد أعضاء جسمه التي لربما لم يسمع عنها من قبل وأكثر من ذلك ترى أن الخلية الواحدة تمثل كامل تفاصيل الجسم، وهنا يتجلى قول أمير المؤمنين عليه السلام:
أتزعم أنك جرمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالم الأكبر
فإذا كان كل عضو في جسم الإنسان خُلق لأجل هدفٍ دقيق فكيف بالخليقة كلها؟ قال تعالى: ﴿أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون﴾.
قصص الماضين بصائر واقعنا الراهن
كيف يعرف العقل الإتجاه العام؟ وكيف يعرف الحقائق الكبرى لكي يكيف نفسه معها؟
من الأمور الواضحة والمهمة والتي يجب أن لا تُنسَ هي أن الإنسان في هذا العالم ليس وحيداً وأنه قد سبقه خلق كثير جرى عليهم ما سيجري عليه، والعاقل هو الذي ينظر في تاريخهم وأحوالهم لكي يعرف نقاط قوتهم وأسباب ضعفهم وكيف نجا من نجا منهم؟ وكيف هلك من هلك؟ وكيف قامت حضارتهم؟ وكيف سقطت وانتهت وأصبحت أحاديث تتلى؟ والغاية من وراء كل هذا هي أننا لسنا بمنأىً عما جرى عليهم ومن هنا فإن العاقل الذي يبحث عن كمال عقله يجعل التاريخ مدرسة لفهم الواقع، قال تعالى: ﴿حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾
بصائر الآية:
الأولى: قصه نبي الله يوسف عليه السلام بالرغم من قصرها إلا أنها قصه مليئة بالدروس من أولها إلى آخرها، وفي أخريات آياتها يذكرنا الرب سبحانه وتعالى بأن الرسل بعد رحلتهم التبليغية المتعبة والمجهدة من جهة، وبعد كفر أممهم وعدم تفاعلهم معهم من جهة أخرى، مكذبين لهم ولن يؤمنوا لهم أبدا فعندئذٍ ينزل الله سبحانه وتعالى عليهم نصره، وإذا جاء هذا النصر فإنه لا يبقي ولا يذر أحداً من المكذبين، لكن رحمة الله تستثني بقوله تعالى: (فنجي من نشاء): أولئك المؤمنين من أتباع الرسل والمنتهجين نهجهم، ومن أبرز الأمثلة على هذه الآية هم عادُ قوم هود عليه السلام الذين كانوا يقطنون أطراف الجزيرة العربية وينحتون الجبال بما أوتوا من قوة، فكذبوا نبيهم الذي أرسله الله سبحانه وتعالى إليهم فعند ذلك أرسل الله سبحانه وتعالى عليهم الريح العقيم فاقتلعتهم إقتلاعاً كأنهم أعجاز نخلٍ منقعر ولكن نجى الله سبحانه وتعالى النبي هود عليه السلام والذين آمنوا معه حيث أمروا أن يحفروا في الأرض حفراً ويناموا فيها فلم تصل إليها هذه الريح القوية بفضل الله سبحانه وتعالى ومشيئته.
من هم أولي الألباب؟
قال تعالى: ﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾
بصائر من الآية
الأولى: تركز الآية المباركة على تقديم مثال حي عن أولي الألباب وأصحاب العقول من خلال بيان أن القصص التي وردت في القرآن الكريم ليست قصصاً أسطورية وليست للمتعة والتسلية، بل هي قصص حقيقية تفسر الواقع المعاش في شتى النواحي لأجل أن يقتدى بها الناس، وأن هذه القصص لا يستفيد منها إلا أرباب العقول؛ فيعني أن أولي الألباب هم الذين يستفيدون من قصص الماضيين بتحويلها الى تفسير حي لما يجري في زمان تواجدهم.
الثانية: وبربط الآية بما تقدمها فإن الرب سبحانه وتعالى لم يخلق الخلق لأجل أن يفسد فيها الظلمة أو يتحكم بها الطغاة، بل ان الله خلقها وجعل العاقبة فيها للمتقين وجعل الارض لله يرثها عباده الصالحون، وأن معرفة هذه الحقائق الكبرى يزيد من عقل الإنسان، ومن هذه الحقائق الإهتمام بالآخرة؛ لأن الحياة الدنيا لعب ولهو لا تستحق كل هذا العناء وكل هذا الاهتمام.