46/03/11
الموضوع: نماذج من البديهيات الواضحة.
تمهيد: (1)
من نعم الله على خلقه أنه يزيد لهم النعمة كلما استفادوا منها، كالارض التي تُستصلح، فإنها تزداد عطاءً وإنتاجاً كلما اهتم بها الإنسان، وكالآبار التي تزداد كلما استُقي منها، وتنتهي وتنضب عندما يتم إهمالها، وكجسم الإنسان الذي يضمر ويذبل كلما ترك الإنسان الحركة، كذلك الحال بالنسبة للعقل؛ فإنه يزداد كلما استثمره الإنسان وفعّله، ويتناقص ويتضاءل كلما أهمله الإنسان ولم يستثمره عبر التأمل والتفكر اللذان يزيدان من توهجه وفعاليته. ورد في الحديث الشريف عن المعلى بن خنيس أنه قال: (رآني أبو عبد الله عليه السلام وقد تأخرت عن السوق، فقال عليه السلام: اغدُ إلى عزّك).[1]
وورد في رواية أخرى عن فضيل الأعور قال: (شهدت معاذ بن كثير، وقال لأبي عبد الله عليه السلام: إني قد أيسرت فادع التجارة، فقال: (إنك إن فعلت قلّ عقلك).[2]
وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال لمولى له: "يا عبد الله، احفظ عزّك"، قال: (وما عزّي فداك؟، قال عليه السلام: (غدوك إلى سوقك وإكرامك نفسك). وقال لآخر مولى له: (ما لي أراك تركت غدوك إلى عزّك؟، فقال: (جنازة أردت أن أحضرها، قال: فلا تدع الرواح إلى عزك).[3]
تمهيد: (2) التذكرة وسيلة لمعرفة العقل.
حينما ينظر الإنسان إلى الآخرين وإلى ما يدور حوله قد لا يلتفت ولا يشعر أنه رأى كل هذا بعينيه، كذلك يسمع ويميز بين الأصوات ولكنه قد يغفل عن الآلة التي سمع بها. وكذلك العقل؛ فالإنسان قد يغفل عنه ولا يلتفت إليه، ولا يعلم أن به يفرق بين الحق والباطل، الخير والشر، والألوان والأشكال، ويحكم على الأشياء ويضاء به الطريق وتكشف به الحقائق، فعندئذٍ هو بحاجة إلى ما سميناه سابقًا باكتناه الذات، وتبدأ هذه العملية بتنبيه الإنسان أو إلفاته إلى عقله من خلال الأمور الواضحة والبديهية.
نماذج قرآنية على البديهيات
النموذج الأول:
قال تعالى: ﴿وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين، أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب، أفلا تعقلون﴾.[4]
بصائر من الآيات:
في الآيات المباركة استدلال منطقي بديهي على أمرين:
الأول: أن الذي يأمر الناس بالبر يرى أن مصلحة من يأمرهم هي أن يعملوا به، وإذا كان الإنسان يحرص على أن يعمل يلتزم الناس بهذا البر من خلال أمره ونهيه لهم، فهذه المصلحة هي نفس مصلحته هو فلماذا يأمرهم وينسى نفسه؟
الثاني: كأن الآية تقول بما أنكم أهل الكتاب وأنتم تتلونه وتدرسونه، والناس يستفيدون منكم ويرجعوا إليكم فبالأولى لكم أن تطبقوه قبل أن تأمروا الناس به، أفلا تعقلون؟
النموذج الثاني:
قال تعالى: ﴿وإذ قتلتم نفسًا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون، فقلنا اضربوه ببعضها، كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون﴾[5]
بصائر من الآيات:
البصيرة الأولى: الآيات المباركة تحدثنا عن قصة بني إسرائيل، وخلاصتها أن شخصًا من قبيلة من قبائل بني إسرائيل قتل شخصًا آخر من قبيلة أخرى، وبعد الحادثة بدأ الاختلاف بين القبائل وبدأ بنو إسرائيل في تراشق التهم فيما بينهم، مع تعمدهم إخفاء الحقيقة فالله سبحانه وتعالى بيّن من خلال قوله: ﴿والله مخرج ما كنتم تكتمون﴾ أنه يا بني إسرائيل لا يمكنكم إخفاء أي شيء عن الله سبحانه وتعالى أو عن رسوله؛ لأن النظام الحاكم على الكون لديه وسائل كثيرة لكشف الحقيقة، مثل شهادة الجوارح، وشهادة الحواس، وشهادة الزمان، وشهادة المكان، وما شابه وهذه كلها ستُكشف يوم القيامة، أما في الدنيا فالعلم الحديث أماط اللثام عن جملة من العلوم التي تكشف الحقائق للإنسان من خلال لغة جسده وتعابير وجهه، فإذا كان هذا عند البشر فكيف بخالقهم؟ فاعتقاد بني إسرائيل بأنهم قادرون على إخفاء جريمتهم على الله سبحانه وتعالى خاطئ؛ لأن الله سبحانه وتعالى بيّن لهم أنه من خلال ضرب هذا القتيل ببعض لحم البقرة، فإنه سيعود إلى الدنيا ويخبرهم عن تفاصيل الحادثة.
البصيرة الثانية: نستخلصها من قول الله سبحانه وتعالى: "كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون". يشير الله سبحانه وتعالى إلى أن كما أعاد هذا القتيل إلى الحياة، كذلك سيعود الناس إلى الحياة بعد موتهم. كما رأى بنو إسرائيل بوضوح عودة هذا الميت إلى الدنيا مرة أخرى، كذلك سيُريكم الله آياته في الكون، وآيات الله كثيرة، منها ما يرتبط بالآيات البشرية أو الآيات التي أودعها في الخليقة.
النموذج الثالث:
قال تعالى: ﴿وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلوا إلى بعضهم قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم، أفلا تعقلون﴾[6]
بصائر الآيات:
المنافقون معروفون بأنهم يظهرون شيئًا ويخفون غيره، والمؤمنون متوسمون أي أنهم يستطيعون التعرف على المنافقين من خلال سيماهم، والرب سبحانه وتعالى يبيّن أن المنافقين يظنون أنه تعالى يحتاج إلى سماع حديثهم فيقولون لبعضهم البعض: (لا تحدثونهم بما فتح الله عليكم)، ظنًا منهم أنهم يخدعون الله ورسوله. ولكن في الحقيقة إن الله تعالى قد جعل لرسوله وسائل كثيرة يتعرف بها على الأمور الخفية لدى البشر، وهذه من المميزات التي يتميز بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك الأئمة المعصومون عن بقية الناس، لذلك نجد أن الآية المباركة تقول: ﴿أولاً يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون﴾[7] ، فالسر الذي حدثوا به في أنفسهم يعلمه الله سبحانه وتعالى ولا يحتاج إلى أن يُكشف له بالكلام.
الخلاصة:
ـ إن العقل يلتفت إلى البديهيات، ولكن لا يجب الاكتفاء بهذا الالتفات فقط، بل علينا زيادة الاهتمام بها حتى يشع العقل أكثر فأكثر.
ـ الفلاسفة القدامى قالوا: إن الضروريات محصورة في عدد معين كالتناقض والعلة والمعلوم، ولكن في الواقع أن العقل يكتشف حقائق كثيرة ولا يتوقف عند عدد معين منها، بل إنه في رأينا يمكن أن تتوسع هذه الضروريات سواء من حيث المفهوم بإعادة النظر في معناه أو من حيث المصاديق بزيادة عددها، وذلك أن الإنسان حينما يلتفت إلى تسلسل الأمور والأحداث المرتبطة بسائر شؤون حياته فإنه يصل إلى معرفة عدد كبير من هذه الحقائق الواضحة؛ فمثلاً قد يرى دخانًا منبعثاً من مكانٍ ما فعند ذلك يأخذ برأس خيط الحدث ويتابعه ثم من خلاله يصل إلى حقائق أخرى كأن يدل الدخان على وجود نار، والنار تدل على وجود شخص في تلك المنطقة وهكذا.
ـ العقل لابد أن يُفعل وتفعيله لا يأتٍ من فراغ بل من زيادة اهتمام الإنسان به حتى ينمو ويتكامل أكثر فأكثر، ولذا فإننا نجد أن بعض الأدعية طلب من الله بزيادة العقل وكماله: (اللهم ارزقني عقلاً كاملاً)، مما يعني أن الإنسان قد ينقص عقله لأسباب معينة، فيحتاج عندئذٍ إلى إعادته إلى حالته الطبيعية والعمل الدؤوب على تنميته وزيادته.