الأستاذ السيد المدرسي

التفسير

39/07/01

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: سورة الأنبياء الدرس الرابع عشر

﴿ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلي‌ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحي‌ إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26)﴾

 

أعظم برهان على صدق الرسالات، هو تطابقها مع العقل، فالرسالة الإلهية تخاطب عقل الإنسان بعد أن تبعد عنه شوائب الهوى والعصبيات وما ترسب في ذهنه من آراء، وفور ما تصل الرسالة إلى العقل يستقبلها فيكون كالتقاء النور بالنور يزداد ضياءاً وتلألأً.

فالأنبياء عليهم السلام، كانوا يحدثون الناس بمنطق وجدانهم وضميره، فترى النبي إبراهيم عليه السلام مثلاً يسأل قومه عن فائدة عبادتهم للأصنام وهل هي تقضي لهم حاجةً أو تدفع عنهم خطراً، فمن دون تعقيدات يوصلهم إلى سخف معتقدهم، ومن هنا جاء في الأثر عن أمير المؤمنين عليه السلام: " اعْرِفُوا اللَّهَ بِاللَّهِ وَ الرَّسُولَ بِالرِّسَالَة"[1] بلى؛ فيما يرتبط بإثبات الوسطاء بين الخلق والخالق لابد من وجود برهانٍ صادق، في مقابل من إتخذ من دون الله سبحانه آلهةً.

والرسول هو الذي يعرف من خلال سلوكه وزهده في الدنيا، من خلال حديثه الذي يدخل شغاف القلب فيملأه نوراً وضياءا، من خلال تطبيقه للرسالة على نفسه أولاً، ولذلك فهو حريٌّ بأن يتبع ويتوسل به إلى الله، أما الآخرون فهم بحاجة إلى أن يقيموا برهاناً على ما يتبعون، قال الله سبحانه:

﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ ﴾

أما برهان المؤمنين الموحدين فهو:

﴿هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلي﴾

فبرهاننا أن الرسالة ذكرٌ تذكر الإنسان بالله سبحانه، وبذلك يعرف صدق كلام الرسل، ولكن ماذا يعني التعبير بـ " ذكر من قبلي"؟

البشر يتأثر بمجموعة عوامل ومنها ماضيه وتراثه، فالإنسان إبن ماضيه، وليس من تراثنا وتاريخنا عبادة الأصنام، لأن عبادة الأصنام جائت أساساً من منطقة هيت حيث جاء بها بعض القوافل التجارية لقريش، وإلا فأهل مكة كانوا حنفيين قبلئذ، فالتراث الحقيقي هو عبادة الله سبحانه.

والمؤمن على هذا الذكر، ومن هنا إكتشف صدق رسالة النبي وإستدل على صدقه، وهكذا نحن عرفنا أئمتنا عليهم السلام بإعتبارهم أهل الذكر، فلما عرفنا سيرتهم وسلوكهم وأقوالهم، علمنا بأنهم هم أهل الذكر الذين أمر الله سبحانه بسؤالهم في الآيات الأولى من هذه السورة.

‌﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)﴾

معرفة الحق ومعرفة أهله كمالٌ للإنسان عليه أن يسعى جاهداً للوصول إليه، كما يدعو المؤمن ربه دائماً: "اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْ نَبِيَّكَ اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي رَسُولَكَ لَمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي"[2] .

أما من لم يؤت حظاً في العلم ونصيباً من الهدى فإنه يعرض، فبالرغم من وضوح معالم الإيمان وشواهده إلا أن حجب النفس تمنعه من الإذعان والإقرار.

الإنبهار سبب الغلو

من أسباب الضلالة عند البشر الغلو، ومن أسبابه الإنبهار بشخصٍ أو شيءٍ ما، وهو ناتجٌ عن محدودية عقله وضيق أفقه.

وذات الأمر يصدق عند الإنسان في تعامله مع الأنبياء، فحين رأوا كراماتهم ومعاجزهم إنبهروا بهم إلا أن الله سبحانه يبين مقامهم وهو مقام العبودية لله سبحانه:

﴿وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحي‌ إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾

فلم يبعث الله رسولاً إلا وقد شرط عليه من قبل أن يعبدوا الله سبحانه وحده، وحين يعبد النبي ربه مخلصاً فإنه يعني ترك عبادة الأصنام – وهو تاركٌ لها من قبل- وترك عبادة العصبيات والقوميات وعبادة الذات والخضوع للمال والشهوات.

ومن جهة أخرى يؤكد الرب سبحانه على أن هذه المقامات ليست لأنهم أبناء الله سبحانه فتكون من ذواتهم، بل هي من الله سبحانه أكرمهم بها:

﴿وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26)﴾.

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

 


[1] الكافي-ط دارالحديث، الشيخ الكليني، ج1، ص213.
[2] الكافي-ط دارالحديث، الشيخ الكليني، ج2، ص149.