39/06/09
موضوع: سورة الأنبياء/الانسان بين التسافل والتكامل
﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَ هُمْ في غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)ما يَأْتيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (2)لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ السَّميعُ الْعَليمُ (4)﴾
إذا عرفت العقل فلا تحتاج إلى البحث عن الجهل لأنه ضد العقل، وإذا أحطت علماً بالنور فلا تبحث عن الظلام لأنه إنعدام النور.
ذكرنا أن الإنسان في الوسط بين التكامل والتسافل، فلا هو في القمة ولا في القاع، ويستافل بالعوامل الست التي ذكرناها، والتكامل يكون في عكسها، فإذا تجاوز الإنسان حاجز الغفلة وإستمع إلى الذكر إستماعاً واعياً ولم يلعب أو يلهُ فآمن بالحقائق، فإنه يتكامل وبعبارة أخرى: إذا كانت الغفلة وسيلة للتسافل فإن التذكر عاملٌ للتكامل.
ومن هنا، فكل صفةٍ سيئة تدعها فإنك تكتسب بذلك أمرين، الأول تجنبك للعقوبة والثاني إرتقائك درجةً أعلى، فمن ترك معصيةً عرضت له أعلى مقاماً ممن لم يتعرض للمعصية أصلا.
كلماتٌ صاعقةالكلمات الأولى في كل سورة تكون صادمةً وصاعقة، تهز مشاعر الإنسان من الأعماق، فلنستمع إليها:
1. ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ ﴾
لم يقل الرب " قرب" بل إقترب، كما أنه لم يخصص الإقتراب بفئةٍ دون أخرى بل بالناس، والحساب هو حسابهم.
أما الإقتراب فيدل على أنه قرب منهم كثيراً، إذ الأفعال في اللغة العربية تزداد معنى بإزدياد الحروف فيها، كما في كسب وإكتسب حيث الثاني يدل على المزيد من الكسب.
أما ورود لفظ الناس فلأن القضية ليست قضية شخصٍ دون آخر أو فئة دون آخر، بل هو عامٌ لكل مولودٍ في هذه الدنيا، إذ لابد أن يلقى كلٌ حسابه.
حقاً ما أعظمها من كلمة تصعق الإنسان الذي يحاول عادة الهروب من إطار المسؤولية، فلا يؤمن أو يؤمن بالحقائق لكن لا على نفسه، كمن يصدق بالموت لكن لجاره، وحين يعمم الخطاب القرآني الأمر للجميع ( الناس) يعني أنه لا فرق بين أحدٍ أبداً.
وكلمة " حسابهم" تحوي معنيين:
الأول: المحاسبة على ما فعله الإنسان وإكتسبه.
الثاني: المجازاة بعد المحاسبة.
والكلمة تحوي المعنيين دلالةً على أن الجزاء الإلهي عادلٌ لأنه مرتبطٌ بمحاسبةٍ دقيقة لفعال الناس.
إختراق حاجز الزمنوللكلمة ظلال وبصيرة ترتبط بالبشر ، فهو يعيش في إطار الزمان( الماضي- الحاضر- المستقبل) وكلما كان الإنسان أقدر على إختراق الزمان كان أقدر على كشف الحقائق، لأن الحقائق لا تتركز في زمن واحد بل هي مبثوثة عبر عصورٍ مختلفة، فإذا إخترق الإنسان حاجز الماضي كان كمن يعيش معهم من الأنبياء والأمم السابقة ويستفيد من عبرهم، وإذا إخترق حاجز المستقبل فإنه يعيش أيضاً حقائق المستقبل.
فالطالب الذي يعيش المستقبل بخياله لا يقصر في دراسته، وكذا الجندي الذي يستحضر المستقبل فإنه لا يتوانى عن بذل الجهد في المعركة، والمؤمن كذلك لأنه يعيش القبر وأهوال القيامة والصراط والجنة والنار بقلبه، فهو يخترق الزمن نحو المستقبل ويحايث حوادثه، وهذا هو أنجع دواء لمواجهة مرض الغفلة، لأن الغفلة تأتي من تبلد مشاعر الإنسان.
2. ﴿وَ هُمْ في غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾
والغافل على نوعين، فقد يكون غافلاً بسيطاً، فإذا نبّه إنتبه، وقد يكون مركباً لا يقبل التذكير ويعرض عنه، وإذا أعرض الإنسان سوف لا ينتفع بالمواعظ.
3. ﴿ما يَأْتيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ﴾
قد لا يستفيد الغافل من المواعظ لتحولها إلى شيء رتيب في حياته وروتين يمر عليه، ولكن قد تأتيه صدمة عبر الذكر المحدث، ولكنه مع ذلك يعرض عن الحق ويلهي نفسه، فما هو الذكر؟
قالوا أنه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وهو صحيح ولكن يبدو أنه يشمل أي ذكر إلهي، وأعظمه القرآن الكريم.
والمحدث هو الجديد، لا بمحتواه بل بأسلوبه.
4. ﴿إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (2)﴾
يلعب الغافل محاولاً إبعاد نفسه عن تأثير الذكر، كما فعل أولئك الذين قاتلوا سبط رسول الله صلى الله عليه وآله، في كربلاء، حيث راحوا يضربون على الدفوف والطبول لكيلا يؤثر فيهم كلام السبط الشهيد، ولكن لماذا يستعمل القرآن لفظ الإستماع في المقام؟
الإستماع هو السماع بإرادة وإختيار، الأمر الذي يدل على إنحراف هؤلاء عن الصراط كان بخبث إرادتهم وسوء إختيارهم، فبدل الإستجابة لما إستمعوه صاروا يلعبون.
5. ﴿لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله أَبْصَرَ رَجُلًا يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فِي صَلَاتِهِ فَقَالَ : "إِنَّهُ لَوْ خَشَعَ قَلْبُهُ لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ"[1] .
ومعنى الحديث أن المصلي كان بعيداً بقلبه عن الصلاة ولاهٍ عنها، وهكذا الغافل يستمع ولكن قلبه لاهٍ عن الذكر.
وينوه القرآن إلى أن مشكلة اللاعب لا تبدأ من سلوكه بل تبدأ من لهو قلبه، فقلب الإنسان قد يتحول إلى مثل الصخرة الصماء التي ينزلق عنها الغيث، فينزلق عن قلبه الذكر دون أن ينفذ فيه
6. ﴿وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذينَ ظَلَمُوا﴾
من الناحية اللغوية كان المفترض أن يقال ( أسرّ النجوى الذين ظلموا) بإعتبار كون ( الذين ظلموا) فاعلاً ، فلماذا جائت الآية بهذا الأسلوب؟
قيل أنها جائت على لغة ( أكلوني البراغيث) ولكن الذي أعتقده أن الفاعل هو الواو في ( أسروا) إشارة إلى الغافلين، وحينئذ تكون ( الذين ظلموا) منصوبة بالإختصاص مثل قولهم ( نحن المسلمين )، مما يدل على أن الظلم هو أساس كل إنحرافٍ لدى الإنسان كما مر.