39/06/08
موضوع: سورة الأنبياء/الاطار العام للسورةالأنبياء
سورة الأنبياء﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَ هُمْ في غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)﴾الإطار العام للسورة
يبدو أن الإطار العام لسورة الأنبياء هو ذاته لسورة طه المباركة، الذي يبين أن الناس درجات حتى في إيمانهم، وحينئذ فلابد من وجود معيارٍ واضح لمن أراد التقدم عبر مراقي الكمال، فما هو ذلك المعيار؟
الحديث في سورة "طه" كان عن عيسى وأمه عليهما السلام وموسى عليه السلام ومن كان معه كأخيه هارون، وتتميماً لذات الإطار يبين الرب في سورة "الأنبياء" مسيرة الأنبياء الكرام كأمثلة متقدمة جداً في مجال الإنسانية، فحين يتأمل الإنسان القيم المثلى يجد في نفسه صراعاً عن سبيل الوصول إليها، وكذا حين يدرس سيرة الأنبياء والأئمة يجد نفسه بعيداً عن مقامهم بعد السماء والأرض، فربما يصاب باليأس، ولكن الرب سبحانه يضرب لنا الأمثال بالأنبياء وهم بشر، رفعهم الرب إلى القمة، بل وربما إنتشل بعضهم ورفعهم إلى القمة كما مع أبينا آدم حيث قال الله سبحانه عنه: ﴿ وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى * ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى﴾[1] .
فلماذا لا تستطيع أنت – أيها الإنسان- من بلوغ المراتب العليا؟
بلى؛ قد لا تصل إلى تلك القمم السامقة لسببٍ آو لآخر، ولكن من الممكن أن تصل إلى مراتب عالية، أولم يقل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله:" عُلَمَاءُ أُمَّتِي كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ"[2] وحين يذكر الرب قصص هؤلاء الأنبياء في السور القرآنية يأمرنا أن نقتدي بهداهم لنقترب من مقاماتهم، قال الله سبحانه: ﴿أُولئِكَ الَّذينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِه﴾[3] .
عوامل السقوط
أول بحثٍ تتعرض له آيات هذه السورة هو الحديث عن عوامل السقوط وأسبابه، فما السر في بيانها قبل الحديث عن عوامل الرقي؟
السر في ذلك أن مبتغي الكمال عليه أولاً تجنب عوامل السقوط كي يتمكن من الأخذ بعوامل التعالي والرقي، كما المريض الذي ضعف بدنه بسبب المرض لا يعطى جرعات مقوية قبل أن يتم معالجة المرض، لأن تقوية الجسم سيسهم في تقوية المرض أيضاً.
وما زالت البشرية تعاني من مشكلة التهرب من دراسة أسباب التسافل وعدم التفكير فيها، وربما هرباً من مواجهة الواقع المرّ والإتعاظ به.
فما هي عوامل السقوط؟إذا وقف الواحد منا على سفح جبل، فإنه سيجد أمامه طريقاً طويلاً نحو القمة، كما أنه يرى خلفه طريقاً بعيداً نحو قعر الوادي، وهو بينهما يختار سبيله نحو التعالي أو التسافل.
وهذا مثال كل واحدٍ منا في الحياة، حيث لم يخلق الله أحداً وهو على القمة أو القاع، بل خلقه وهو في الوسط على الفطرة، فإذا إستسلم لعوامل السقوط تسافل وإن قاومها سلم وترقّى.
العامل الأول: الظلمالظلم هو تجاوز الحق، أي حق؟
أي حقٍ مفروضٌ على الإنسان سواءاً لله أو للنفس أو للآخرين من حوله، فلكلٍ منها حقٌ بيّنها الإمام زين العابدين عليه السلام في رسالته للحقوق، وبتجاوزٍ أيٍ منها يمسي المرء ظالماً لنفسه أو لغيره.
والظلم أصل كل إنحرافٍ في البشرية، وبالذات الفكرية منها.
ومن هنا فإن تعرّض الإنسان للظلم من قبل أبويه وأسرته وبيئته لا يسوّغ له أن يمارس هو الآخر الظلم على الآخرين، فلا يجوز للمظلوم أن يظلم غيره بداعي ظلامته.
وبأيسر ظلمٍ ينكت في قلبه نكتةً سوداء قابلة للتوسع بقدر الظلم وحجمه، حتى يستوعب السواد القلب كله، فيسوّد القلب وينحسر النور ويسود الظلام.
العامل الثاني: الغفلةوبعد حالة الظلم تأتي مرحلة الغفلة، لأن ذكر الله نورٌ وبتركه يدخل القلب في ظلمات الغفلة، وسبيل معالجة ذلك بمداومة الإستغفار من الظلم والمعاصي.
العامل الثالث: قسوة القلبتستتبع مرحلة الغفلة مرحلة أخطر منها، هي قسوة القلب حيث لا ينتفع قسي القلب بنصح الناصحين، سواءاً المكررة منها أو المستجدة.
العامل الرابع: اللعبوفي مسلسل التسافل ينشغل الإنسان بعد قسوة قلبه باللعب، فما هو اللعب؟
إنه الإلتهاء ببعض الأمور ذات الفوائد الظاهرية دون أن يكون لها فوائد حقيقية، هرباً من المسؤولية الملقاة على عاتقه، ارأيت الذي يمارس صيد اللهو؟
إنه يصطاد لا لينتفع من لحم صيده، بل لكي يقتل وقته وعمره بقتل فريسته، ويهرب من مسؤوليته باللحاق بصيده.
العامل الخامس: اللهو
وبعد اللعب تصل النوبة إلى اللهو، وهو محاولة الإلتهاء عن الحقائق بما لا نفع لها أبداً، قال الله سبحانه: ﴿ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُون﴾[4] .
فإن كان للعب نفعٌ ظاهري فليس للهو ذلك أبداً، كما الذي يلهو بيده في الماء دونما هدفٍ أو فائدة.
العامل السادس: الإضلالوبعد كل تلك الدركات، وإبتعاده عن الجادة، يصل الظالم إلى مرحلة محاولة إضلال الآخرين ومنعهم من الإستضائة بالهدى، لأن الإنسان يحسد الآخرين بطبيعته، فهو يحاول منعهم من الإرتقاء ويريد جرّهم إلى حضيضه، كما المريض بالجذام يسعى لنقل العدوى للآخرين لا لشيء، إلا ليكونوا مثله ولا يتميزوا عنه بالصحة.
وطبيعة كل ساقطٍ تدعوه إلى إسقاط الآخرين معه ومنعهم من الهدى، ومن أجل ذلك يسعى لصناعة ثقافات تبريرية وأفكار منحرفة من أجل التعمية على الحق، وبذلك يتحول من مجرد ضال إلى مضل، وبتعبير آخر من ضالٍ إلى مغضوبٍ عليه.
ومعالجة هذه الدركات الست لا تتيسر إلا بمنع العامل الأول والتخلص منه، أعني الظلم، وتطهير القلب من براثنه بكثرة الإستغفار ومداومته، لأمكان أن يكتب المرء ظالماً وهو لا يشعر، كما يمكن بقاء بعض عوالق الظلم في القلب دونما علمٍ.
وهكذا كان على الإنسان المداومة على تطهير قلبه والسعي نحو ذلك بشتى الوسائل والطرق، كما يسعى من إتسخت يداه إلى تطهيرها بالماء فإن لم ينفعه فبالمطهرات المختلفة، لكيلا يبقى عليها الدرن المادي.
1-﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ ﴾
ليس الحساب بعيداً، بل هو مغيّبٌ عنا، فإذا مات إبن آدم قامت قيامته، فليس بينه وبين حسابه إلا الموت الذي يتم في لحظات يسيرة، إذ الموت يكون كلمح البصر وإن طالت بعض مقدماته.
فحيث لا يدري الإنسان ساعة موته الذي قد يكون في أي لحظة، فلابد أن يستشعر إقتراب حسابه.
2-﴿وَ هُمْ في غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ﴾
لغفلتهم عن الحقائق تراهم معرضين عنها، كمن هو مقبلٌ على حفيرةٍ في طريقه لغفلته عن وجودها.
3-﴿ما يَأْتيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (2)﴾يلعبون بسبب قسوة قلوبهم، الأمر الذي يمنعهم من التأثر بالذكر.
4-﴿لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ﴾
لا يوجهوا قلوبهم إلى ما ينبغي التفكير فيه بسبب اللهو بما لا ينفع.
وفي عصرنا اليوم حيث زحمة المعلومات المختلفة وتراكمها الرهيب، أمست البشرية لاهية، لا تفكر في الحقائق والقضايا المرتبطة بمصيرها، بل وقد أبتدع البعض أساليب ماكرة لصرف إنتباه الإنسان وإلهائه عن واقعه ومسؤوليته.
5-﴿وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)﴾بالرغم من أن عامل الظلم ذكر في هذه الآية، لكنه هو الأساس كما يبدو، فهو مبدأ الوصول إلى هذه النتيجة الخطيرة، أي مرحلة حمل راية الشيطان، التي تبدأ من خلال حركة سرية حتى تسري إلى العلن.