الأستاذ السيد المدرسي

التفسير

38/02/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: سورة الأحقاف/ الآية 34 و 35

 

﴿وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى‌ وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)

 

يمتلك الإنسان قدرات هائلة لو تمكن من تنميتها وإكمالها وربطها ببعضها البعض لتمكن من الوصول إلى القمم السامقة، ومن تلك القوى التي تشكل قوة أساسية في الإنسان والتي قد يغفل عنها الكثير من الناس هي القوة المخيلة، فبالخيال يقدر المرء على أن يحلم، ويسعى لتطبيقه على أرض الواقع فيكون كما تخيله، حيث كان الإنسان يتخيل نفسه يطير في الهواء كالطيور أو يغوص في البحار كالأسماك أو يطوي المسافات بسرعة، فأخترع الطائرة والغواصة والسيارة، وهكذا الإختراعات التي نراها اليوم ونسمع عنها كانت في فترةٍ ما لا تعدوا أحلاماً وخيالات، ولكنها أضحت واقعية، ولولا الخيال البشري لما تمكن من القيام بها.كما يتمكن الإنسان بخياله تقريب البعيد، وإراحة الذات وتهوين الألم، أرأيت كيف يأنس المرء بتخيل من فقد من أعزائه؟ وكذلك يكون الخيال محفزاً للإنسان وشاحذاً لهمته، فالطالب الذي يتخيل يوم الإمتحان، سيحمله ذلك على الإجتهاد في الدراسة، والتاجر الذي يتخيل إنكسار تجارته يقوم بإتقان العمل وضبط أمور التجارة، والعالم الذي يتخيل نتيجة عدم قيامه بواجبه الديني، سيسعى للإجتهاد في تكليفه، لأنهم جميعاً يتخيلون المصير!وهكذا يمكن للإنسان أن يقرب ــ بخياله ــ الموت والقبر وسؤال منكر ونكير، ويوم القيامة و.. فيحمله ذلك على إصلاح ذاته، كما كان ينزع أبوذر الغفاري رضوان الله عليه ثيابه في صحراء المدينة ويتقلب على الرمضاء محدثاً نفسه: (ذق يا أباذر فنار جهنم أشد حراً)، وكما يفعل الصالحون من حفر قبورٍ لأنفسهم ينامون فيها ويتخيلون أنفسهم موتى فيسألون الرب سبحانه أن يرجعهم إلى الدنيا كي يستأنفوا العمل ثم يقوموا وهم نادمون على الخطايا وعازمون على الصالحات.وهكذا ترى المؤمن حينما يشاهد جنازةً محمولة يتصور نفسه محمولاً بدلاً عنها فيعزم على الجد في خشية الله سبحانه.وقد جسدت بعض مقاطع أدعية المعصومين عليهم السلام ــ كدعاء أبي حمزة الثمالي ــ مصير الإنسان في القيامة من الخروج من القبر والوقوف للحساب والميزان و.. أروع تجسيد بما تجعل الإنسان وكأنه ينظر إلى ما يحدث في تلك الساعات.

 

القرآن وتوظيف القوة المخيلة

ولأن القرآن المجيد كتابٌ يتكلم مع الإنسان من كل الجهات والأبعاد، ولا يترك بعداً إلا ويوظفه من أجل إنقاذه من نار جهنم، فإنه يوظف القوة المخيلة أيضاً، فيبين أن الصلاة صعبة على الإنسان إلّا الخاشع، والخاشع هو من يتخيل نفسه أمام الرب عزوجل في يوم القيامة، قال الله سبحانه: ﴿وَ اسْتَعينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعين‌ * الَّذينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُون‌[1] .

 

الخيال وسيلة للإرتقاءهناك بون واسع بين الإنسان البدائي وبين الخبير بأمور الحياة، فالمسافة بينهما كبيرة، ولكن المسافة بين المؤمن والكافر تفوق المسافة بين البدائي والعالم، فمعرفة المؤمن كسلمان المحمدي واعتقاده الراسخ باليوم الآخر يرفعه درجات عظيمة، بينما يتسافل الكافر بجهله وإنكاره للحقائق فيظهر البون بينهما.ماذا عنك؟أما أنت أيها الإنسان، ففي منتصف الطريق.. حيث ولدت في بيئة مؤمنة بالله سبحانه ولكن أمامك مسافة متبقية، عليك سلوكها، ومدارج عليك إرتقاءها للوصول إلى الإيمان الكامل، ومن أدوات ذلك إستعمال الخيال، بأن تصور نفسك عند ميزان الله سبحانه وأمامك أعمالك أو تتخيل النار وعذابها والجنة ونعيمها.كان لي زميلٌ في الدراسة وأراه أحياناً سارح البال، وحين اسأله عن حالته يقول: كنت أتصور نفسي في القيامة والإمام الصادق عليه السلام واقف يسائلني عن أية مسألة أفتيت بها وعن الدليل الشرعي عليه.وفي هذه الآية من سورة الأحقاف بيان لصورة من صور يوم القيامة التي تحمل الإنسان على تخيلها وهي صورة عرض الكافرين على النار:

 

﴿وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ

هنالك حيث يوقف الكافر على نار جهنم تسقط كل الحجب عنه، فيرى الحقيقة ويصل إلى اليقين.

 

﴿ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى‌ وَ رَبِّنا

لا يعذب الكافر في القيامة قبل أخذ إقراره واعترافه بإستحقاق العذاب، وحين يعرض الكافر على النار يسأله (الله سبحانه أو الملائكة) أليس هذا بالحق وقد كنت تكذب به من قبل؟فيجيب بلى؛ ويشفع إجابته بالقسم بالله سبحانه، ولكن السؤال: لماذا يقسم الكافر هنالك؟ قولههم "وربنا" خطابٌ لأنفسهم الامارة بالسوء التي كانت تدعوهم إلى الإنكار والإستهزاء بالحقائق وإتهام الدعاة والرسل، فالنار ماثلة أمام أعينهم ولا حاجة إلى القسم بوجودها، بل القسم لأنفسهم.وهناك حيث يعترف الكافر ويقر بذنبه ويشهد على نفسه بإستحقاق العذاب يقال له:

﴿قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ

وحينها بعد أن اكتملت المحاكمة وصدر الأعتراف الذي هو سيد البراهين يقال للكافرين ذوقوا ما كنتم تكفرون به.

وعلى الإنسان المؤمن أن يتخيل هذه الحالة دوماً، فيتصور نفسه على شفير جهنم ويفكر في كيفية إنقاذ نفسه منها، فيسأل الله سبحانه أن يبعده عنها ويقيه عذابها كما في الدعاء: ﴿وَ قِنا عَذابَ النَّار[2] .

وفي سورة مريم يقول الرب سبحانه: ﴿وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى‌ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمينَ فيها جِثِيًّا[3] ، يعني أهل التقوى هم الوحيدون الذين ينجيهم الله سبحانه من النار، إذ يمر الناس جميعاً من على النار، فبعضهم يمر كالبرق وبعضهم يمر في ساعات، وبعضهم يبقى فيها آلاف السنين حتى يخرج منها، ولا يدرى أهي من سني الدنيا أم سني الآخرة.

وتخيلُ ذلك الموقف الصعب يحمل القلب على الخشوع والعين على الدموع والجوارح على الخضوع لله سبحانه، وهي مسؤولية الأنسان بأن يتصور دوماً الآخرة ومواقفها لتخليص نفسه، ولكن ما هو دور الأنبياء في مسير بناء الإنسان؟

 

دور الأنبياء في بناء الإنسان

نعود هنا إلى ما قلنا من الفارق الكبير بين الإنسان البدائي والعالم، وبين الإنسان المؤمن والكافر، وعلى غير المؤمن أن يتكامل خطوة تلو أخرى حتى يصل إلى المقامات العالية.

وهنا يأتي دور الأنبياء ومن يليهم من الأوصياء والعلماء، في أن يأخذوا بيده ويحملوه مرقاةً تلو المرقاة، إذ ليست قضية تكامل الإنسان قضية هينة وسهلة، فهي بحاجة إلى الصبر والأناة وتحمل صعوبات الطريق، ومن هنا؛ يخاطب الرب سبحانه نبيه في آخر آية في السورة ويأمره بالصبر:

﴿فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ

كان صبر الأنبياء عظيماً في تبليغهم لرسالة الله سبحانه وتحملهم للأذى في سبيل نشر الدين، ومن اولئك الأنبياء مثلاً النبي زكرياء عليه السلام الذي يقول الإمام الصادق عليه السلام عنه: "إِنْ زَكَرِيَّا كَانَ خَائِفاً فَهَرَبَ فالتجأ إِلَى شَجَرَةٍ فَانْفَرَجَتِ لَهُ وَ قَالَتْ يَا زَكَرِيَّا ادْخُلْ فِي فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ فِيهَا فطلبوه فَلَمْ يَجِدُوهُ وَ أَتَاهُمْ إِبْلِيسَ وَ كَانَ رَآهُ فدلهم عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ هُوَ فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ فاقطعوها وَ قَدْ كَانُوا يَعْبُدُونَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ فَقَالُوا لَا نقطعها فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى شَقُّوهَا وَ شُقُّوا زَكَرِيَّا عليه السلام"[4] .

وبالرغم من أن صبر الأنبياء عظيم إلا أن صبر اولي العزم منهم كان أعظم وأكبر، فشيخ المرسلين نوح عليه السلام صبر قرابة ألف سنة، وبلّغ الدين في ثلاثة أجيال متعاقبة متحملاً التعذيب النفسي والجسدي منهم في سبيل الله، والنبي ابراهيم عليه السلام صبر على العذاب والهجرة والإبتلاءات المختلفة، والنبي موسى عليه السلام صبر على أذى فرعون من جهة وأذى قومه من جهة أخرى، والنبي عيسى عليه السلام تحمل من بني اسرائيل ما تحمل من الأذى وصبر، ولذلك أمر الله النبي الأكرم صلى الله عليه وآله بالصبر مثلما صبروا، فكان صلى الله عليه وآله صابراً على ما أذوي بما لم يؤذ نبيٌ من قبله.

 

﴿وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ

الأمر بالصبر، وأمرٌ بعدم الدعاء عليهم، وحسب تتبعي لم يدع النبي صلى الله عليه وآله على قومه مع إيذائهم له، بل كان يدعو لهم بالقول: "اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي‌ فَإِنَّهُمْ‌ لَا يَعْلَمُونَ‌"[5] .

 

﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ

لا حاجة لإستعجال العذاب لأن عمر الدنيا قصيرٌ جداً، فلو قيس بالآخرة وكأنه لم يكن إلا ساعةً من نهار، وليس هذا عجيباً، بل نجده في عالم الدنيا أيضاً، فبعض الكواكب التي تدور حول الشمس يطول اليوم الواحد فيها مائتان وخمسين عاماً من سنين الأرض لبعدها عن الشمس.

وحين ينتهي عمر الإنسان يرى الدنيا وكأنها لا شيء وكما قال سيد الشهداء عليه السلام في رسالته لأخيه محمد وبني هاشم في بيان حال الدنيا والآخرة: "مِنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَ مَنْ قِبَلَهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَمَّا بَعْدُ فَكَأَنَّ الدُّنْيَا لَمْ‌ تَكُنْ‌ وَ كَأَنَّ الْآخِرَةَ لَمْ تَزَلْ وَ السَّلَامُ"[6] .

ولا يقصد من لفظ الساعة في الآية، الساعة المعهودة، بل يقصد منها اللحظة.

 

﴿بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ

ما في القرآن الكريم من آيات هو بلاغٌ، فماذا يعني البلاغ؟

البلاغ هو الإنذار والتحذير من العذاب الذي ينتظر الإنسان نتيجة فعله الخاطئ، ولو لم يصححه سيناله لا محالة، كما تبلغ الدولة المخالفين لقوانينها خطأهم وتحذرهم من العقوبة لو استمروا على مخالفتهم.

والطيبون من الناس يستفيدون من البلاغ فيصححون الخطأ ويصلحون ما فسد، ولكن الفاسقين الذين قامت حياتهم على أساس التجاوز والتعدي، وعلى أساس الإفراط والظلم، فهؤلاء لا يستجيبون للبلاغ والإنذار فيهلكون بسوء اختيارهم.


[1] البقرة/السورة2، الآية45-46.
[2] البقرة/السورة2، الآية201.
[3] مريم/السورة19، الآية71-72.
[4] قصص الأنبياء، قطب الدين الراوندي، ص217.
[5] إعلام الورى بأعلام الهدى، الشيخ الطبرسي، ص179.
[6] بحار الأنوار، العلامة مجلسي، ج45، 87.