الأستاذ السيد المدرسي

التفسير

38/02/08

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: سورة الأحقاف/ الآية 27 و 28

 

﴿وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى‌ وَ صَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَ ذلِكَ إِفْكُهُمْ وَ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)

 

من عرف دقائق العلوم المختلفة دون أن يعرف سنن الله المحيطة به فهو من الجاهلين، ومثله كمثل السائر في طريقٍ معبدٍ ويحث الخطى بصرف المزيد من الطاقة ولكن في الإتجاه الخاطئ، فلن يزيده السير إلا بعداً عن هدفه، وهكذا هم الذين لا يعرفون سنن الله المحيطة بهم، فيؤخذون على غفلة وإن كانوا في قمة التقدم العلمي.فحتى لو كان للبشرية مئات مراكز الدراسات واستطلاعات الرأي فإنه لا يمكنه التنبؤ بالمستقبل وستخطئ ظنونه، لأن الإنسان لا يعرف ما يكسب غداً ولا يدري بأي أرض يموت، ومجاهيله كبحر تحيط بقطرة معارفه.والله سبحانه يعرفنا سننه، ومن عرفها بصر الحقائق، ولذلك ترى المؤمن ينظر بنور الله سبحانه، بل كاد أن يكون المؤمن نبياً في معرفته بالحقائق اذا استبصر بنور الله سبحانه، وفي مقابلهم ترى الجاحدين بآيات الله، الذين لا يجحدون بذات الآية، بل يجحدون بدلالتها على الله سبحانه، فيقتصر نظرهم على الشهود دون العبور إلى ما ورائها من حقائق الغيب، ويخفى عليهم الباطن مع معرفتهم بظواهر الأمور.وفي القرآن الكريم بصائر نافذة لو تدبر المؤمن فيها لتكشفت معالم الحقائق له بإذن الله، ومن تلكم البصائر أسباب هلاك الأقوام السابقة، فلماذا هلك من هلك في التاريخ، كعادٍ وثمود وقوم لوط وقوم نوح، كيف أهلكوا والأهم من ذلك لماذا أهلكوا؟ ألم تكن لهم أعين وسمع وأفئدة؟ ألم تكن تجارب الأمم من بين أيديهم؟ أو لم يملكوا معرفة متقدمة بحسب زمانهم؟ وإذا كانوا أناساً جهلة فكيف قاموا ببناء هذه الحضارات، وكيف شيّد الفراعنة الأهرامات وحنطوا الأموات وبنوا نظام الري؟بلى، إنهم علموا الحقائق المشهودة وكفروا بما ورائها من حقائق الغيب، عرفوا الظاهر وجحدوا ما ورائه من باطن، ولذلك اصطدموا بها وكان فيها هلاكهم، فأهلكوا في قمة تقدمهم، فتلك المدنيات التي سادت لم تشخ، بل أنتهت في عنفوان شبابها ومن دون سابق إنذار، من دون وجود مشاكل إقتصادية أو طبيعية، أو حروب، مما يثير التساؤل عن السبب في هلاكها، فيدعونا الرب سبحانه عن دراسة مصيرها، والنظر في آثارها ليتبين نزول العذاب عليهم فعلاً، كما يبين ربنا سبحانه أنهم لم يهلكوا إلا بعد أن بين الله لهم الآيات المختلفة، دون الإكتفاء بآية واحدة ومن هنا يقول ربنا سبحانه:

﴿وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى‌ وَ صَرَّفْنَا الْآياتِ

يسمي الرب سبحانه تلك الحضارات بالقرى، لأنها لم تؤمن بالله سبحانه، فلم ينفعهم تقدمهم، فكانوا من الهالكين، ولكن لم يكن هلاكهم إلا بعد تصريف الآيات، فما معنى ذلك؟تصريف الآيات يعني الآيات الكثيرة والمتتالية، دون أن يكتفي سبحانه بإرسال آية واحدة، بل أتم عليهم الحجج بآية تلو أخرى، كما كان بالنسبة إلى قوم فرعون الذين أنزل فيهم تسع آيات مختلفة وواضحة.

﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

الهدف من تصريف الآيات هو رجوعهم وتوبتهم، فهناك بعض الأقوام تابوا وأصلحوا أنفسهم والقصة البارزة هي قصة قوم يونس عليه السلام، أما الحادثة الأبرز فهي قوم النبي محمد صلى الله عليه وآله، حيث كاد العرب ينتهون في الجزيرة العربية من كل النواحي، فهم كانوا يأدون البنات ويقتلون الأولاد خشية إملاق، وكانت الحروب والغارات منتشرة بينهم، وكان طعامهم وشرابهم الورق والطرق، والأمراض مستشرية، حتى أن الغزاة والمستعمرين لم يكنوا يطمعوا بتلك المنطقة، ولكن الله سبحانه أنقذهم بنبيه الأكرم صلى الله عليه وآله، وكما قالت الصديقة الطاهرة سلام الله عليها في خطبتها الفدكية: "وَ كُنْتُمْ عَلى‌ شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ مَذْقَةَ الشَّارِبِ وَ نَهْزَةَ الطَّامِعِ وَ قَبْسَةَ الْعَجْلَانِ وَ مَوْطِئَ الْأَقْدَامِ تَشْرَبُونَ الطَّرْقَ وَ تَقْتَاتُونَ الْقِدَّ أَذِلَّةً خَاسِئِينَ‌ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ‌ مِنْ حَوْلِكُمْ فَأَنْقَذَكُمُ‌ اللَّهُ‌ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله بَعْدَ اللَّتَيَّا وَ الَّتِي"[1] .

ولكنهم وبعد إيمانهم بالنبي الأكرم وتضحيات المؤمنين منهم بين يديه، علت رايتهم وتحسنت معيشتهم، وتقدموا اقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً وزراعياً، فكانت لهم حضارة حكمت العالم أكثر من ستة قرون.

ضرورة الإصلاح

ومن هنا؛ فعملية الإصلاح عملية ضرورية لكل مجتمع، لأن الإنسان يخطأ وخطأه يتحول إلى خطر، ومن دون دفعه يكون سبباً لإنتهاءه، فكما يحوي جسم الإنسان عشرات الأجهزة التي تقوم بعملية الإصلاح والتصفية كالكبد والكلى والرئتان و.. والتي لولاها لما تمكن الإنسان من أن يعيش سوى سويعات، كذلك لابد في المجتمع من أجهزة إصلاحية، فمجالس الشورى والعلماء والخطباء والمؤمنون الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كلها وسائل إصلاحية لابد أن تبقى مستمرةً في عملها على طول الخط، ولولا ذلك لكان المجتمع مهدداً بالإنهيار.

وربنا سبحانه يحذر الإنسان بمجموعة من الصعقات التي تحمله على العودة إليه وإصلاح ما فسد من أمره كالسنين والنقص في الأموال والأولاد والإبتلاء بعدو خارجي و.. وكلها بمثابة منبهات للإنسان، ومن دون التنبه لها سيكون مصيره الهلاك، كما كانت الآيات على قوم فرعون مثل الدم والضفادع والقمل و.. إشارات تدعوهم للعود، ولكن حين لم يلتفتوا إليها أخذهم الله سبحانه.

واليوم نرى في بلادنا دخول داعش واحتلاله لمناطق مختلفة منه، على العقلاء أن يفكروا في سبب دخولهم، اليس في دخولهم علاقة بالخلل الحادث في الوضع السياسي والاجتماعي في العراق؟ ووجود داعش بمثابة أعراض ظاهرة لمرض سبب هذه الأعراض، كما أن الصداع هو عرضٌ لأمراض مختلفة.

ونحن سنقضي بإذن الله سبحانه وببركة أبي عبد الله الحسين عليه السلام على هذه الزمر الإرهابية، وسنطردهم من أرضنا، ولكن من ثم لابد من معلاجة تلك الأسباب التي أدّت إلى دخولهم، إذ ينبغي علينا أن ننتبه للآيات التي تترى علينا كالتحديات الأمنية والعسكرية والإجتماعية والثقافية، ونعتبرها نذر الخطر والمرض، لكي نصلح أنفسنا وواقعنا.

لم يرجعوا.. لماذا؟

بالرغم من تصريف الآيات ووجود الدلائل المختلفة، لكنهم لم يرجعوا إلى الصلاح، لماذا؟

السبب في ذلك كان في قناعاتهم الخاطئة والسير وفقها، دون أن يسيروا في إطار السنن الإلهية، مثلهم مثل المريض الذي يذهب إلى الساحر بدل الذهاب إلى الطبيب، اوليس سيكون مصيره الموت؟

هكذا كان اولئك الأقوام، حيث كانوا يعبدون أصناماً مصنوعة، ويعتقدون بآلهة مزعومة من دون الله سبحانه، ويعتقد بعضهم بأن الأصنام شفعاؤهم إلى الله سبحانه، فبدل أن يلتجأوا إلى الله ويرجعوا إليه أو إلى من أمر بالرجوع إليه، توسلوا بتلك الألهة فكانت حجاباً بينهم وبين النجاة.

وبدل أن يتخذوا سنن الله سبحانه طريقاً للتصرف، اعتمدوا على الخرافات والأوهام، فكان في ذلك هلاكهم.

﴿فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً

التجأوا بالألهة من دون الله سبحانه فما أغنتهم شيئاً ولم يتوجهوا إلى الله، فلم ينصروهم.

﴿بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ

لم ينفعهم الألهة فحسب، بل ضلوا عنهم فاختفت الأصنام والأحجار والآلهة المزيفة.

﴿وَ ذلِكَ إِفْكُهُمْ وَ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)

معنى ذلك أن الأصنام والأحجار لم تكن هي التي حملتهم على العبادة، بل هم الذين زعموا بأنهم آلهة، فالفكرة الخاطئة والعقيدة المنحرفة هي التي حملتهم على عبادة الأصنام.إفكهم بإعتبارها آلهة وإفترائهم على الله سبحانه بإعتبارها شفعاؤه كانت سبباً في عدم انتفاعهم بالآيات والتحذيرات المختلفة.عقيدتنا في الشفاعة

نحن نعتقد قناعة تامة بالشفاعة، ولكن بشفاعة الذين أمرنا الله سبحانه بالتوسل بهم إليه، كما قال سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسيلَةَ وَ جاهِدُوا في‌ سَبيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون‌﴾[2] ، فبعد الإيمان بالله والتقوى، يبتغي المؤمن إلى الله الوسيلة، مضافاً إلى الجهاد في سبيله سبحانه، علّه يصل إلى الفلاح، ومن دونها لن يتمكن من الفلاح.

فالفرق بين عقيدة المؤمن في شفاعة أولياء الله وبين عقيدة الكافر، إن أولئك اتخذوهم شفعاء من دون الله ومن دون أمر الله سبحانه، بينما دعا الله المؤمن إلى الاستشفاع إلى أولياءه الصالحين، والأمر الثاني أنهم تركوا سنن الله سبحانه وجحدوا بها، بينما يسير المؤمن وفقها، وهذا هو الأفق الصحيح في العقيدة.

 


[1] الإحتجاج على أهل اللجاج، أبي منصور الطبرسي، ج1، ص100.
[2] المائدة/السورة5، الآية35.