الأستاذ السيد المدرسي

التفسير

38/02/06

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: سورة الأحقاف/ الآية 24 و 25

 

﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ريحٌ فيها عَذابٌ أَليمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ‌ءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى‌ إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمينَ

 

تستوقفنا هذه الآيات الكريمة عند بصائرها النافذة، التي لابد لكل قارئ للقرآن من التوقف عندها والاستضاءة بها وتطبيقها على نفسه لينتفع بعبرها.نعمة أمست نقمةومن أبرز تلك البصائر، هي كيف تنقلب النعم التي يغتر بها الإنسان إلى نقم، فلو كان الإنسان جاهلاً بهدف الخلقة وغافلاً عن الحكم التي تسيّر الحياة، وناسياً الحق الذي هو جوهر المخلوقات، فإنه سوف يعتبر الكثير من النقم نعماً ويستقبلها ويهش بها وإذا بها نقم، كما يحدث العكس أيضاً، حيث يخال بعض الأمور نقماً ويكرهها وهي خيرٌ له.قوم عاد في الأحقاف كانوا يعتمدون مياه الأمطار لشربهم وزراعتهم، وقد منع الله سبحانه عنهم قطر السماء لفترة، وحين أراد إنزال العذاب عليهم ظنوا السحب السوداء القادمة إليهم سحباً ممطرة، ففرحوا بها واعتبروها كثيرة المطر لكونها داكنة، فانتشروا في أراضيهم ــ بحسب بعض المفسرين ــ إستقبالاً للمطر، ولكن لم تكن تلك السحب سحائب خيرٍ بل كانت عذاباً أليما.وقد يصادف الإنسان شبه هذه الحقيقة في حياته، حيث تلوح له بعض السحب من بعيد، ولكنها في حقيقتها عاصفة رملية لا تلبث وأن تنتشر فتحيل النهار ليلة من شدة ظلمتها، وهكذا كانت عاصفة قوم عاد، حيث كانت نقمةً عليهم بينما هم تصوروها نعمة، ولكن لماذا كان الأمر كذلك؟لأنهم كفروا بالنعم، وحين يكفر الإنسان بالنعمة تتحول إلى نقمة، فالطعام ــ مثلاً ــ نعمة من نعم الله على الإنسان ولكن الكفور بهذه النعمة يسيء التصرف بها فيأكل أكثر من حاجته ويأكل ما يضره ويعتاد التخمة و.. فلا تلبث النعمة أن تصير بالنسبة إليه نقمة لما تحمله من أمراض وأوجاع وفي كثير من الأحيان تؤدي به إلى الموت، لأنه لم يعرف قدرها ولم يحسن شكرها.العلماء نعمة إلهية على الناس، ولكن عدم شكر الناس لهذه النعمة يعرضهم لإنتقام الرب حين يضيع العالم بين جهال.التكنولوجيا اليوم نعمة، فبها يتمكن الإنسان من تسخير الطبيعة وتسهيل الحياة وخدمة الإنسان، ولكنها أصبحت نقمة على البشرية بإستخدامها في غير محلها مثل صناعة أسلحة الدمار الشامل بها.وهكذا سائر النعم قد تتحول إلى نقم على الكفور بها، إذ لم يعي الإنسان الهدف منها وحقها عليه وقيمتها، فتحولت عليه وبالاً.

ومن هنا، كانت الصفة الأساسية للمؤمن تجاه النعم هي صفة الشكر، والذي يعني أن يعرف الإنسان المنعم ووظيفته تجاهه، ويعرف الهدف من النعمة، وواجبه تجاهها، ومن هنا كان الشكر جماع الحكمة، قال الله سبحانه: ﴿وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَميد[1] .

وهكذا تحولت النعم على أهل عاد الذين كفروا بها إلى نقم، وأخذهم الله أخذاً قويّاً، وقد يظن البعض أن العواصف وشبهها حالة طبيعية تحدث في كل مكان، وقد يكون ما أصاب عاد منها دون أن يكون عذاباً إليها..، وبالرغم من حدوث العواصف والزلازل وغيرها إلا انها تبقى محددة بإرادة الله سبحانه، مضافاً إلى أن النبي هود عليه السلام والذين آمنوا معه لم يخرجوا من المنطقة، بل أمرهم الله بحفر حفيرة ويناموا فيها، فكانت تمر عليهم العاصفة كالنسيم، بينما كانت تأخذ العمالقة ــ كما مرّ ــ إلى السماء وترمي بهم إلى الأرض.ومن هنا على الإنسان أن يكون دقيقاً في تحليله لما يسمى بالحوادث الطبيعية مثل السيول والزلازل والأعاصير و.. بأنها ليست عبثية وعمياوية، بل هي محكومة بإرادة الله سبحانه بصورة دقيقة، حتى أن علماء الأنواء قد يتنبأوا بشيء ولكن تخيب تصوراتهم وقد تصاب منطقة بما لم يتنبأ بها العلماء وأجهزتهم.

 

﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا

العارض هو الحادث، والظاهرة القادمة إليهم[2] ، فتخرصوا بأنها خيرٌ لهم لأنها تحمل ــ بحسب ظنهم ــ الأمطار التي منعت عنهم لفترة.

 

﴿بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ريحٌ فيها عَذابٌ أَليمٌ

في الآية السابقة ذكر الرب سبحانه مطالبة عاد نبيهم بأن يأتيهم بما يعدهم، وتحدوا الله سبحانه بتحدي نبيه، وهنا يجيب الرب سبحانه عن مطالبتهم النبي هود عليه السلام، فهذا العذاب هو نتيجة إستعجالهم، فربما لم يكن لينزل الله سبحانه عليهم العذاب أو كان يؤخره عنهم إن لم يكونوا يتحدوا النبي هود عليه السلام.استعجلوا العذاب فجائهم ريحٌ فيها عذابٌ أليم، ولفظة (الريح) في القرآن توحي بالعذاب، بينما كلمة (الرياح) تدل على النعمة.

 

﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ‌ءٍ بِأَمْرِ رَبِّها

من صفات الريح القادمة إليهم، أنها تدمر كل شيء بأمر الله سبحانه، ولا يقول الله أنها تدمر كل شخص، بل تدمر كل شيء أي كل ما بنته أيديهم من معالم الحضارة التي اغتروا بها، وكأن الإعصار الذي جاء عليهم لم يبق لهم من منازل وبيوت وطرقات شيئاً.واليوم هناك يترقب علماء الجيولوجيا زلزالاً يضرب بعض مناطق الأرض، وفي حال وقوعه سوف لا يبقى على الأرض شيء مما بناه الإنسان.ولا تدمر ما تدمره تلك الظاهرة إلا بأمر الله سبحانه وتعالى، فلا يظنن أحدٌ أنها ظاهرة طبيعية تحدث هكذا وبلا سبب.

 

﴿فَأَصْبَحُوا لا يُرى‌ إِلاَّ مَساكِنُهُمْ

يقول المفسرون: أن مساكنهم بقيت على حالها، ولكن الآية ذكرت أنها تدمر كل شيء، فماذا يعني بقاء المساكن؟يبدو أن المعنى من المساكن هو المعنى اللغوي للكلمة، أي أن بيوتهم ومنازلهم تهدمت ولكن بقيت مناطقهم والأماكن التي كانوا عليها وبقيت بعض الآثار الدالة عليهم للإعتبار.وهكذا يبقى الرب سبحانه، بحكمته، بعض الآثار من كل حضارةٍ أو قومٍ دمرّوا، كما بقيت قلاع بعلبك أو أهرامات الفراعنة والآبار المعطلة و..، لتكون محل إعتبار الناس بما آلت إليه أمور تلك الأقوام.

 

﴿كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمينَ

بسبب إجرامهم ابتلوا بهذه العاقبة السيئة، فليس الأمر محصوراً بهم، بل بكل مجرم، فما كانت جريمة عاد؟أعظم جرائمهم هي كفرهم بالله سبحانه، وتسلسلت بتكذيبهم وكفرهم بالدين والشريعة وأحكامها، والكافر بهذه سيكون مصيره التكذيب بحقوق الناس، وبالتالي تجاوزه، فالكافر بالله سبحانه يؤول أمره إلى إجرامٍ مستمر في سلوكه.فكما أن بداية الإيمان معرفة الله بالقلب ونهايته التوكل عليه في السلوك، كذلك بداية الكفر يكون إنكار الله ونهايته الجرم العملي.

 

قومٌ مجرمون

وقد يكون الشخص مجرماً كفرد وربما يحلم الله عنه في الدنيا ويؤخر جزاءه ليوم القيامة، ولكن إذا تحول المجتمع كله إلى مجتمعٍ مجرم، فإن الله سبحانه ينزل عليهم العذاب، ومن هنا نرى أن الله لا ينزل العذاب على قومٍ فيهم المصلحون، قال الله سبحانه: ﴿فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَليلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَ اتَّبَعَ الَّذينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فيهِ وَ كانُوا مُجْرِمين‌* وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى‌ بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُون‌﴾[3] .

وقوم عاد كلهم كانوا مجرمين، والقوم من الناحية اللغوية يعني مجموعة من البشر يقوم بعضهم مع البعض في أمرٍ ما ويتفاعلون فيما بينهم، وهؤلاء تفاعلوا على الجريمة.

 


[1] لقمان/السورة31، الآية12.
[2] كل ما يستقبلك من الشيء عنه عارض: [ تاج العروس، مرتضى الزبيدي، ج10، ص124.]
[3] هود/السورة11، الآية116-117.