38/02/05
الموضوع: سورة الأحقاف/ الآية 21 و 23
﴿ وَ اذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظيمٍ (21) قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23)﴾
من الوساوس التي تطرأ قلب الإنسان أن الله سبحانه رحيمٌ فكيف يعذب خلقه؟ فهل من الممكن أن يعذبنا الرب وهو الرحمن الرحيم، والعطوف المنان.. أولسنا نرى كل ما في الكائنات من حولنا تظهر فيها تجليات رحمة الرب ولطفه؟ أولسنا نرى في أنفسنا كيف أن الله نقلنا من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات آمنين، وجاء بنا إلى الدنيا سالمين.. وهيأ لنا بعد ذلك اللبن السائغ المتناسب مع أجسامنا الضعيفة؟ ألسنا نجد في كل ذلك آيات الرحمة الإلهية، فهل يمكن أن يعذبنا الرب سبحانه؟إنها ثغرة يدخل منها الشيطان قلب البشر، ويمنيّهم بأن الله لا يعذبهم فيزيل عن قلبهم خوف الحساب والعقاب بالرغم من إنذار جميع الأنبياء والمرسلين، كما قام نوحٌ بين قومه ألف سنة إلا خمسين يحذرهم من تبعات عبادتهم للأصنام، معلناً لهم أنه يعلم من الله ما لا يعلمون.فهو، عليه السلام، _ كما سائر الأنبياء _ يعلم بأن الله سبحانه رحمن ورحيم وهو أرحم الراحمين لكن في موضع العفو والرحمة، وهو سبحانه أشد المعاقبين، في موضع النكال والنقمة.ولكن من أين لنا أن نعرف حقاً بأن الله يعذب العاصين؟ هناك طرق كثيرة نستدل بها على هذه الحقيقة، ومنها وقوع العذاب فعلاً على أقوامٍ سابقين، وقبل بيان الآيات القرآنية التي تذكر قصة قوم عاد لابد من بيان بعض البصائر:
البصيرة الأولى: الحق واحد دقّ أو جلّ
كما أن نار الحريق تحرق، كذلك نار عود الثقاب هي الآخرى محرقة، فطبيعة النار هي الحرارة والإحراق عظمت أو صغرت، وكما في الحديث عن أمير المؤمنين، عليه السلام: " أربعة قليلها كثير: الفقر و الوجع و العداوة و النّار"[1] . فمن الممكن أن تحرق عودٌ واحدة غابةً بأكملها، وهكذا هي الحقائق لا تختلف في جوهرها وإن اختلفت في أحجامها، فحين نعي أن الله سبحانه منتقم من المجرمين، فإن ذلك يعني أن الله ينتقم من الفرد بجريمته كما ينتقم من أمة بكاملها بجرائمها، فينتقم من أمة كعاد ويبعث عليهم الريح سبع ليالٍ وثمانية أيام، ويحولهم إلى أعجاز نخلٍ خاوية.. وكذلك الأمر يكون بالنسبة لي أنا، حيث ينتقم الرب مني إن قمت بعمل يخالف أمره، مهما كان صغيراً، بل حتى إن عمل المكروه وترك المندوب واقتراف اللمم كل ذلك له عقوبته الخاصة كالنكتة السوداء في القلب، أو سلب التوفيق للأعمال الصالحة (كما يحرم المؤمن بذنبه قيام الليل) أو سلب المحبة تجاهه من قلوب الناس وهكذا..
ومن هنا ؛ كان لابد لتالي آيات الكتاب الكريم عن سيرة الماضين وما جرى عليهم، ألا ينأى بنفسه عنها ولا يتصور نفسه بعيداً عن الخطاب، فيقول في نفسه، أنا مؤمن ولست معنياً بهذا الحديث، بل عليه أن يعتبر بالقصص لأن الهدف من إيرادها في القرآن هو الإعتبار بها لا مجرد زيادة المعلومات أو التسلي بالقصص.
البصيرة الثانية: تكرار القصة الواحدة لماذا؟
ذكرت قصة قوم عاد في القرآن الكريم أكثر من مرة، كما نجد تكرار القرآن الكريم لسائر العبر التاريخة المرة بعد الأخرى، ما هو السبب في ذلك؟
قلنا سابقاً: أن التكرار بذاته يساهم في تربية الإنسان، وبالإضافة إلى ذلك فإن في كل عبرة لونٌ من التوجيه في كل مرة تذكر وذلك بحسب الزاوية التي يورد القرآن الكريم الحديث عنها، فسورة الأعراف مثلاً خصصت الحديث عن معرفة الإنسان كإنسان، ومن هذه الزاوية لابد أن يدرس القارئ قصة موسى وفرعون، أما في سورة آل عمران التي تهدف إيجاد الوحدة، لابد من دراسة ذات القصة من تلك الزاوية، وهكذا يحدثنا الرب عن القصص بحسب الموضوعات المختلفة والأهداف المتعددة ليستفيد الإنسان من القصة في ذلك المجال.
وفي سورة الأحقاف التي ذكرنا أنها سورة تهدف " الحق" بياناً وتثبيتاً في آياتها، من خلال بيان محورية الحق في خلق السماوات والأرض، ومن ثم ذكرالكافرين الذين استكبروا في الأرض بغير الحق و.. لابد أن تدرس قصة قوم عاد من هذه الزاوية، كيف؟
بأن يعرف الإنسان أن الحق كما الجبل الشامخ، ثابتٌ وراسخ، ومن أراد أن يناطحه فلن يضر الجبل شيئاً بل سيشج رأسه بما يفعل ليس إلا، فالحق ثابتٌ لا يمكن تغييره بالأوهام والذهنيات الباطلة، فلو تصور الإنسان بذهنه إبطال سنن الحق، ومن ثم عمل بناءاً على تلك الأوهام فهل سيحصد غير الندامة شيء، كمن يرمي نفسه من شاهق لإلغاءه حقيقة الجاذبية في ذهنه، فسيكون مصيره تحطم الجسم ليس إلا.
الأمثلة الواضحة
وتجلي الحق قد يكون في الأمور الجزئية والتي يتضرر الإنسان بمخالفتها جزئياً، كمن يقاوم النعاس (الحق) فترات الأمر الذي يؤدي به الى الصداع، وقد يكون في الحقائق العظمى التي في مخالفة الإنسان لها هلاكه ودماره.
ولا يضرب القرآن الكريم بالأمور الجزئية مثلا، بل يورد الحقائق العظمى كأمثلة للإعتبار، فيذكر لنا قصة العرب الذين بادوا [2] ، مثل قوم عاد وثمود الذين أنتهوا، وكذلك أصحاب الأيكة الذين اعتبرهم البعض من العرب البائدة أيضاً.
فعلى العرب أن يلتفتوا إلى أن ثمة أقوام عربية سبقتهم أبادهم الله عن بكرة أبيهم، ويأخذوا من قصة عادٍ عبرةً لأنفسهم.
البصيرة الثالثة: ألون العذاب
هناك حديثٌ عن أن الأمة الإسلامية مروحومة ولا تعذب، فالله سبحانه رفع ببركة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وأهل بيته الأطهار عليهم السلام ولا سيما الإمام الحجة عجل الله فرجه، رفع عذاب الاستئصال عن هذه الأمة، ولكن ذلك لا يعني أن الله رفع ايضاً سائر ألوان العذاب.
فليس العذاب كله عذاب استئصال، فالفقر والأمراض و المجاعة و.. كلها ألوانٌ من عذاب الله سبحانه، وبحسب إحصائيات العام المنصرم أن نسبة كل تلك الأمور ازدادت في العالم بالنسبة للعامة الذي سبقها، أوليس كلما أحدث الناس ذنوباً أحدث الله لهم أنواعاً من العذاب؟
ومن أعظم ألوان العذاب المبتلى به أهل العالم اليوم هي الحروب الأهلية والداخلية، والتي تبدأ ولا تنتهي إلا بإحراق الأخضر واليابس، والتي قد تطول إلى عقودٍ من الزمان يتناسل الناس فيها من أجل الإحتراب والإقتتال، قال الله سبحانه عن أنواع العذاب: {قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون}[3]
عذاب الريح
تنشأ الرياح بسبب إختلاف الضغط في المناطق المختلفة في الأرض، والتي تؤثر الشمس شروقاً ومغيباً فيها، وهذه الرياح هي التي تحرك السحب وتلقح الزرع و.. وهذه هي الرياح الارضية، ولكن هناك رياح تنشأ بسبب حركة الأرض ودورانها العظيم في الفضاء الخارجي، حيث تنشأ تيارات من الرياح حول الكرة الأرضية، والتي تعد أقوى بكثير من الرياح الأرضية قوةً وسرعةً واستمراراً.
ولو فرض إنخرام الغلاف المحيط بالأرض بأي سببٍ من الأسباب الكثيرة ودخلت هذه الرياح في جو الأرض لدمرت الكثير من معالمها.
وهذا ما حدث بالفعل حين أراد الله سبحانه عذاب قوم عاد، فهم كانوا ضخاماً في الحجم ويملكون قوى جسدية هائلة مكّنتهم من بناء حضارتهم في السهول وفي الكهوف، وكانت بيوتهم في الكهوف في داخل المغارات، وحين ثارت تلك الرياح صار الواحد منهم يهرب إلى مخدع بيته ( الغرفة في بطن الغرفة ) ويحتضن صخرةً لتوقره إلى الأرض، ولكن الريح كانت تدخل وتقتلعه من مكانه فتأخذه إلى السماء ثم ترمي به الأرض، وفي هذا اللون من العذاب دلالة كافية على قدرة الرب سبحانه وهيمنته، فهو سبحانه يأخذ العاصين أخذ عزيزٍ مقتدر.
1. ﴿وَ اذْكُرْ أَخا عادٍ﴾
أمرٌ بتذاكر قصص الماضين، ففيها عبرٌ كافية للناس، فلا يجوز للإنسان ان يقول: " ما لنا وسيرة الماضين" هرباً من مسؤولياتها.ويقوم البعض باختصار القصص، وهذا الفعل هو الآخر فعلٌ خاطئ بل لابد من دراستها دراسة واعية، والقيام بزيارة آثارهم للإعتبار.ولم يكن النبي هود، عليه السلام غريباً على قومه، بل كان أخوهم ومن بني قبيلتهم، ولذلك فلم تكن دعوته تشوبه شوائب المصلحة الذاتية.2. ﴿إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ﴾
ولأنه كان منهم، كانت دعوته لهم دعوة إنذار.وقلنا سابقاً أن الأحقاف هي التلال الرملية، وهذا كان محل إقامتهم لحضارتهم وكانت بالقرب من البحر، وتعتمد مياه الأمطار والعيون في شربها.3. ﴿وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ﴾
لم يكن النبي هود وحيداً في الإنذار، بل كانت هناك نذر من قبله، ولكن ما معنى من بين يديه ومن خلفه؟ وهل يعني ذلك من بعده؟الحديث ليس عن عموم النذر، وإنما هو عمن سبق النبي هود، فيعني ذلك خلت النذر قبله وقبل من كان قبله، فبعضهم كانوا قريبين عليه زماناً وهم الذين كانوا ( من بين يديه ) و بعضٌ كانوا بعيدي العهد عنه (من خلفه) ومثل ذلك ما يرد في الأحاديث ( اغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر) الذي لا يعني الذنوب اللاحقة، وإنما يعني الذنوب القديمة ( تقدم ) و القريبة (تاخر).4. ﴿أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ﴾
يؤكد القرآن الكريم المرة تلو الأخرى على حقيقة العبودية لله سبحانه وضرورتها، لماذا؟لأن معرفة الله سبحانه أصل كل علم، فكلما كان هناك ضعف لدى المرء في أي حلقة من حلقات أي علم، عليه أن يعود ويصلح الحلقة الأولى، كيف؟اليس العقل هو أصل كل العلوم؟ بلى، ويزكوا العقل وينمو بمعرفة الله سبحانه، فمن عبد الله أطاعه، ومن أطاع الله أطاع الرسول، وبإطاعة الرسول تكون طاعة الولي من بعده و بذلك يلتزم المرء بالأوامر والنواهي فيكون له الخلق العظيم وهكذا تتسلسل حلقات التكامل لدى الإنسان.5. ﴿إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظيمٍ﴾
تراهم يسرحون في ملذاتهم دون تأمل عواقبها، بل ولا يقبلون نصح الناصحين، ولكن النبي يخاف عليهم لأنه يريد الصلاح لهم.ارأيت المغتر بماله او بحضارته كيف لا يستمع للنصح؟ هكذا كان حال قوم عاد، ولكن النبي راح يحذرهم من يوم عظيم، فقد تكون الحادثة تأخذ ساعةً من الزمان أو بعضها، ولكن كان اليوم الذي يحذرهم النبي منه بأكمله يوماً عظيماً.﴿قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا﴾
في مقابل إنذاره، وخوفه عليهم، راحوا يدافعون عن آلهتهم من دون الله سبحانه.والآلهة، قد تكون حجرية ( الأصنام ) وقد تكون بشرية، بأن يعظم أبناء كل قبيلة شيخها إلى درجة العبودية.﴿فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقينَ﴾
بسبب تكبرهم، وإغترارهم بما بنوه، طالبوا النبي عليه السلام أن يأتي بما يعدهم إن كان صادقا.ومن أعظم أخطاء الكافر تحديه للرب سبحانه، والإعتماد على ذاته متناسياً ضعفه وعجزه وفقره، وقد يدعي البعض أنه لا يتحدى الله، وإنما يتحدى النبي أو الداعية او..، متناسياً أن هؤلاء دعاة الله سبحانه، وتحديهم يعني تحدي الرب عزوجل.﴿قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ﴾
أعلن لهم النبي هود عليه السلام، المرة تلو الأخرى، أنه ليس إلا منذر و مبلغ لرسالة الله إليهم، فلا يملك لهم من الله شيئاً، وليس هو صاحب القرار النهائي في القضية.فكان حامل الرسالة ومبلغاً لها، وقد قام بتكليفه الشرعي.﴿وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ﴾
وبين لهم النبي موقفه منهم، ورؤيته تجاههم، بأنهم قومٌ يجهلون، ولكن لماذا لم يقل عنهم أنهم " جاهلون"؟
الفرق بين اللفظين، أن الأول يقوم بتجهيل نفسه عمداً، فيترك هدى العقل ونوره بسابق إصرار، بينما الثاني جاهلٌ لم تصله الهداية أو لم يستنر بنور العلم، والفرق بينهما كالفرق بين المجنون وبين من يقوم بسلوكيات المجنون وهو عاقل، فلا عتب على الأول، بينما العتب ينصب على الثاني.
فالجهل هنا نسب إلى قوم عاد كفعلٍ إرادي من أفعالهم، لما قاموا به من تكذيب وتحدي وإستكبار على الحق.
نسأل الله سبحانه أن يعيننا على أنفسنا بما أعان وكما أعان الصالحين على أنفسهم، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.