الأستاذ السيد المدرسي

التفسير

38/02/01

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: سورة الأحقاف/ الآية 17 و 19

 

﴿وَ الَّذي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِني‌ أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلي‌ وَ هُما يَسْتَغيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطيرُ الْأَوَّلينَ (17) أُولئِكَ الَّذينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ في‌ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرينَ (18) وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (19)

 

سبق وأن قلنا أن الإنسان المتمرد على مجتمعه وماضيه، والمتمرد على والديه لا ينظر إلى الماضي، ولا يستفيد من عبر وحكم تاريخه، بل يريد أن يبدأ هو بتجربة كل شيء شخصياً، ومثل هذا الإنسان هو مثل شجرة لا أصل لها ولا جذر، فلا تستطيع أن تدوم، فضلاً عن أن تنمو، وهكذ الإنسان الذي ينفصل عن تاريخه يصطدم بالتأكيد بمشاكل كثيرة وكبيرة في حياته.

والإنتفاع بتجارب الماضين من ميزات الإنسان دون سائر الحيوانات، فقد يتمكن الحيوان من تعلم أمور أو اكتساب خبرة، ولكنه يعجز عن نقلها إلى صغاره، بينما الإنسان ينقل تجاربه لأبنائه وأبناء أبناءه، ومن تلك المنقولات هي اللغة التي يتحدث بها، والتي قد انتقلت إليه عبر تعاقب الأجيال، سواء قلنا بأن اللغة مصدرها الوحي، او قلنا بأنها ناتجة التطور البشري، فإنها (اللغة) قطعت الآف السنين حتى وصلت إلى هذا الإنسان الذي يتحدث بها اليوم.

ومن هنا تظهر حاجة الإنسان إلى والديه إل فترات طويلة قد تمتد إلى ما بعد البلوغ، اما المتمرد على والديه وعلى تاريخه كأنه يرفض الإنتفاع بكل تلك التجارب ويقطع أيادي العون الممتدة إليه بمحض إرادته.

وبعضٌ النماذج المتمردة، حين يريد أن يتمرد على الدين والقيم يستشهد بالتاريخ كدليل على بطلان الدين، كيف؟ بضرب من مات من قبل مثلاً على عدم النشور وعدم البعث.

 

الإنسان بين الدين واللادين

ومما نستفيده من هذه الآيات الكريمة، أن خطي الدين واللادين يعيشان معاً عبر التاريخ في خط موازٍ، كخطي الحديد في سكة القطار، فكل نبيٍ بعث كانت ردة فعل المجتمع على قسمين، قسمٌ آمن به، وقسمٌ كفر به وكذبه، ومن يقول بأن الدين هو أساطير الأولين بإعتباره كلمات السابقين، فرفض الدين ايضأ ليس أمراً حادثاً، والعلمانية (المصطلحة) هي الأخرى من كلمات السابقين، بل إن الدين هو الذي حدث على جهل البشرية لإنقاذهم، وبرفضه يعود الإنسان إلى جذره التخلفي.

ولو كان عند السابقين عن الإسلام جذوة دين ومسحة منه، فهو ضئيلٌ جداً بالمقارنة مع الدين الكامل الذي جاء به النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وعرّف وشرح من قبل الأئمة المعصومين عليهم السلام ومن ثم بيّن من قبل الفقهاء.

فالقضية قضية معكوسةٌ، الدين يريد إخراج الإنسان من ظلمات جهله وتخلفه، بينما اللادين يحن أبداً إلى فترات التخلف وعصور الجهل بالإنسلاخ عن القيم والتجارب والإنسلاخ عن القيم.

ولذلك تجد حينما أنسلخت قسماً من الشعوب من القيم والأديان اكتفوا ببعض الإختراعات الحديثة واعلنوا عدم الحاجة إلى القيم، بدعوى أن العصر قد تغير فالعصر عصر الإختراعات والتقدم، والطريف أن الجهلة والمقتاتين على تلكم التجارب هم الذين يتكلمون بهذا الكلام عادةً.

إلى أين وصل بهم التقدم التكنولوجي البعيد من القيم ؟ وصل بهم إلى أنك تجد أن عشرة بالمائة أو أكثر من أنباءهم تختص بقضايا التحرش و محاولات لعلاجه _ وهو مشروعٌ عندهم_، وأعلنوا أن ذلك سبب فساد وإنهيار الأسرة والمجتمع.

فالإنسلاخ من القيم وحكم الدين هي الرجعية الحقيقية وليس الدين.

 

المصير المحتوم

ومن الحقائق التي تبينها الآية الكريمة، أن هناك مصيراً محتوماً لكل إنسان وليس أمامه إلا حزب الله وحزب الشيطان، ولا ثالث بينهما، وعلى الإنسان أن يختار أحدهما ليسير بسيرته، فإما خط الأنبياء وإما خط الطغاة، لماذا؟

لأن الإنسان سيلقى المصير الذي لقيه من كان قبله من هؤلاء واولئك، فالإبن المتمرد على أبويه والذي يريد أن ينسلخ عن الدين محتجاً بمن كان بعيداً عن الدين من قبله، لابد أن يعلم أنه سيحشر في زمرتهم ومعهم في نار جهنم.

    1. ﴿أُولئِكَ الَّذينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ

فهناك طريق الصلاح والتدين وهناك طريق التحلل واللادين، ويؤدي الأول إلى الجنة والفلاح والثاني إلى النار والهلكة، وبالسير في أيهما ستكون النتيجة حتمية فيصل بها الإنسان إما إلى الجنة وإما النار، فلا يمكن لمن سار في الطريق المؤدي إلى النار أن يصل إلى الجنة، إذ أن هناك سنن إلهية هي التي تحكم الأمر.

ولعل هذا معنى قول الرب سبحانه: ﴿حق القول عليهم﴾ أي أنه حكمٌ إلهي حكم به الرب وثبّته فيما خلق، بأن السائر في طريقٍ ما سينتهي به إلى النتيجة الحتمية.

    2. ﴿في‌ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ

ومن دلائل نتيجته الحتمية أن الطريقين معبدان، إذ سلك السالكون فيهما من قبل.

وبذلك تنسف الآية فكرة كون الدين أساطير الأولين، بل نحن نقول أن الجاهلية هي أساطير الأولين لأن الأمم السابقين مثل قوم عاد الذين سيأتي ذكرهم، وثمود وأصحاب الأيكة وغيرهم، كل هؤلاء سلكوا سبيل الكفر، ووصل بهم الأمر إلى النار.

لكن لماذا الحديث عن الجن في الآية أيضاً وعدم الإكتفاء بذكر الإنس؟

السبب في ذلك، أن بعض الناس كانوا يعتقدون بالجن، وفي سورة الأحقاف حديثٌ عن سخافة هذه العقيدة، مرة في هذه الآية وأخرى في الآية التاسعة والعشرين.

والجن _ كما الإنس_ فريقان، فريقٌ اهتدى، وفريقٌ ظل، فمنهم من تحروا رشدا، ومنهم القاسطون الذين كانوا الجهنم حطباً، فمن سلك منهم سبيل النار سيهوي في نار جهنم حتماً، وفي هذا المصير المحتوم ردعٌ كافي لمن اعتقد أو لا زال يعتقد _ كما هو حال البعض اليوم _ بالجن ويتأثر بهم، أو يقوم بتسخير الجن لبعض الأغراض الفكرية الباطلة.

    3. ﴿إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرينَ (18)

من أراد أن يسير على خطى الكفار الماضين فليعلم أنهم كانوا خاسرين، وبئس بالإنسان أن يسلك سبيلاً خسر سالكوه من قبل.

فالذين يدافعون عن المثلية اليوم _ مثلاً_ وينشرون البرامج ويكتبون الكتب ويبثون الأفلام في سبيل ترويج هذا الإنحراف، من الجيد أن يقرأوا قليلاً عن قرى لوط، فليذهبوا إلى البحر الميت ويبحثوا عن آثار تلك الحضارة التي دمرها الله سبحانه بسبب إجرامهم.

فاولئك خسروا، وكيف لعاقل أن يتبع الخاسر ويجعله قدوة له؟

 

العمل هو المعيار

الله سبحانه خلقنا ليرحمنا، ونحن نعرف بفطرتنا ووجداننا أنه سبحانه رحيمٌ بنا، ولذلك نعوّل على رحمته، ونسائله عن سبب تعذيبه لنا أو ابتلائه لنا بالإمتحانات الصعبة؟

وفي هذه الآية الحديث عن عدالة الرب سبحانه، التتي تتمثل في عدة امور ومنها العدالة في الجزاء، والذي يعني أن العذاب لا يكون على نية الإنسان المنحرفة، فإن نوى الشر لا يعذبه الله عليها _ وإن كان مستحقاً_ ولا يحاسب الله حتى على كلام الإنسان _ إلا ما استثني_ ولكن يحاسبه على أعماله، فإن قام بالعمل إستحق العذاب، لأنه يعد آخر مراحل إتخاذ الموقف الذي يبدأ بالنية وينتهي بالسلوك الخارجي.

ومن هنا كان العمل هو الأساس عند الإنسان، ولكن لا يؤاخذ الله الإنسان بدرجة واحدة في أعماله، فبعضٌ منهم يكون إثمه في حدود جسمه، بينما يتجاوز إثم البعض حدود نفسه ويصل إلى غيره، ويختلف بالتأكيد العملان، فكان لكلٍ منهما درجته المتناسبة وعمله.

و تصدق هذه الحقيقة في أعمال الإنسان الصالحة والطالحة، حيث يرقى بالأول الدرجات، ويتسافل بالثاني في الدركات، ولكن التعبير القرآني أستعمل لفظة " الدرجات " للتعبير عن الأمرين، لتغليب جانب الخير على جانب الشر في الإنسان، ومن هنا يقول الله سبحانه:

    4. ﴿وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا

فدرجات الناس ترتبط بأعمالهم.

    5. ﴿وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ

أي سيصل العمل بكل أبعاده إليهم، والوفاء يعني إعطاء الجزاء كاملاً بلا نقص.

ووردت الأعمال خالية من حرف الجر " باء " دلالة على أن نفس عمل الإنسان يرجع إليه في القيامة، خيراً كان أو شراً، فالصلاة نفسها تتحول إلى ملك يبشر صاحبها في قبره ويسكن روعته بعد خروجه منها _ كما في الروايات _، وكذا سائر الأعمال الصالحة، وفي المقابل يتحول نفس المال الحرام المأكول إلى نارٍ لاهبة.

    6. ﴿وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (19)

وعدم ظلم الله لهم في القيامة شاهدٌ آخر وتأكيد آخر على عدالته سبحانه في الجزاء، وقد أكدت الآية الشريفة على العدالة الإلهية أكثر من مرة:

اولاً: تفاضل الناس في درجاتهم متناسباً مع أعمالهم.

ثانياً: عود نفس الأعمال إليهم.

ثالثاً: أنهم لا يظلمون.