الأستاذ السيد المدرسي

التفسير

38/01/30

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: سورة الأحقاف/ الآية 16 و 17

﴿أُولئِكَ الَّذينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ في‌ أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذي كانُوا يُوعَدُونَ (16) وَ الَّذي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِني‌ أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلي‌ وَ هُما يَسْتَغيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطيرُ الْأَوَّلينَ (17)

 

هناك محطات فكرية توقفنا في هذا السياق المبارك من الآيات الشريفة، ولكل منها بركاتها العلمية والعملية.الإصلاح في الذريةلماذا قال الرب سبحانه في الآية الخامسة عشر " اصلح لي في ذريتي " ولم يكتف بقول "أصلح ذريتي"؟الجواب على ذلك أن الإنسان المؤمن يتطلع إلى جملة من الأهداف النبيلة، ومن تلك تطلعه ليكون له لسان صدقٍ في الآخرين، بأن تكون له الذرية الصالحة، وتكون هذه الذرية لسانه بأن يخلد ذكره فيهم.

فحين نتشرف نحن بالصلاة على النبي الأكرم صلى الله عليه وآله لا نلبث إلا نلحق به أهل بيته الأطهار فنقول: (اللهم صل على محمد وآل محمد) والصلاة على آل النبي لأن النبي يفرح بذلك ويسره الصلاة على أهل بيته، ومن هنا نجد قول النبي إبراهيم عليه السلام في دعاءه: ﴿وَ اجْعَلْ لي‌ لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرين‌﴾[1] .

فأراد الإنسان أن يكون أولاده الصالحين وذريته الطيبة مرتبطة به هو، فيستمر ذكره في عقبه، ولعل هذا سبب حرف "في" في الآية.فوائد تكامل الأجيالوالمحطة الثانية هي في الفوائد التي يجنيها الإنسان بترابط الأجيال ببعضها البعض وتجنيها من تكاملها، ففي الأربعين من عمره ينظر إلى الخلف فيدعو لأبويه وينظر إلى الأمام فيدعو لذريته، وينظر إلى نفسه فيدعو لها، وهذا التكامل بين الماضي والحاضر والمستقبل، ومن تلك الفوائد:

أولاً: أن الله سبحانه يرحم الآباء بصلاح الأبناء، ويصلح الأبناء بصلاح الآباء، وهذه التكاملية الفطرية والواقعية تنكعس في ثواب الله أيضاً، فالمؤمن يلحق به الرب ذريته الذين ساروا نهجه، قال الله سبحانه: ﴿وَ الَّذينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهين‌[2] ، فكانوا صالحين ولكن الله رفعهم إلى منزلة آبائهم الصالحين.

ولعل هذا من دلالات قبول الله أحسن ما عملوا، فالله يتقبل منهم الأحسن، ولكن لماذا وعد الله بقبول أحسن الأعمال؟لأن أعمال الإنسان – حتى الصالحة – لا تخلو من هنات ولمم، ومن الذنوب المحيطة بذات العمل، كأن يشوب العمل شيء من الرياء والعجب، وشيء من عدم الطهارة التامة في المال والجسم و.. فهناك أسباب تحيط بالعمل تنتقص منه، وحينها تحتاج إلى فضل الله سبحانه لقبولها.ويتقبل الله أحسن اعمالهم ويغفر تلك الذنوب لصلاح مسارهم العام وإتجاههم العام في الحياة وطاعتهم للرب في الأمور الأساسية التي أمر بها، فمثلاً إتباع المجتمع للإمام العادل يؤدي بهم إلى مغفرة الله لهم لذنوبهم، لأن إتباع الإمام العادل أمرٌ أساسي، أما العمل الصالح لا ينفع المرء مع اتباعه للإمام الجائر.

وحين يبر الإنسان بوالديه من جهة وبذريته من جهة أخرى فإنها طاعة عظيمة، ويتقبل الله منه أحسن الأعمال، لأنه وصل إلى مرحلة التقوى التي تكون في الأمور الخطيرة ومنها أمر العلاقة مع الأجيال المختلفة، وقد قال الله سبحانه: ﴿إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقين‌﴾[3] .

 

    1. ﴿أُولئِكَ الَّذينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ

فالله هو الذي يتقبل عنهم لصلاحهم وصلاح ذريتهم، أما من يربي ذرية غير صالحة فلا تقبل أعمالهم.إننا نرى أن بعض الناس ولضعف إرادتهم وخور عزيمتهم يتهربون من تحمل المسؤوليات الأساسية ويشغلون أنفسهم بالفرعيات، فقسم كبير من الناس إنحرف عن الحقيقة بسبب إهتمامهم بالقشور وتركهم اللباب.

ومثل هؤلاء لا يتقبل الله سبحانه أعمالهم، كمن يظلم ويجور في الحكم ثم يبني مسجداً، أو يقتل ويذبح المظلومين ولكنه يتمظهر بمظهر التدين، وقد بين الرب المفارقة بين الفريقين في قوله تعالى: ﴿أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ في‌ سَبيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمين‌﴾[4]

إن الله يتقبل أعمال الصالحين ويتجاوز عن سيئاتهم، ولكن لماذا ورد الحديث عن قبول الأعمال بقول ﴿نتقبل عنهم﴾ ولم يقل "نتقبل منهم"؟

لعل ذلك أن شفاعة الشافعين تنفعهم فيتقبل الله أعمالهم، ألم تقرأ قوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفي‌ عِلِّيِّين‌* وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ * كِتابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ[5]

 

    2. ﴿في‌ أَصْحابِ الْجَنَّةِ

قبول الأعمال وغفران الذنوب مقدمة لدخول المرء في زمرة أصحاب الجنة، لأن أغلب أهل الجنة يدخلون زمراً فلابد أولاً من الإلتحاق بعباد الله الصالحين ليكون معهم في الجنة، وكما جعل الرب الدخول في عباده مقدمة لدخول الجنة حين قال: ﴿فَادْخُلي‌ في‌ عِبادي‌ * وَ ادْخُلي‌ جَنَّتي‌﴾[6] .

فهناك مسافة شاسعة وفرق كبير بين هؤلاء وبين أصحاب الجنة، فأصحاب الجنة هم المخلصون ولكن بإعتبار سير هؤلاء في الخط السليم عموماً أدخلهم الله مع اولئك بفضله، ارأيت إذا حشر الرب سبحانه المؤمن في زمرة سيد الشهداء عليه السلام يعني أنه في مستواه او حصل على ذلك بإستحقاقٍ منه؟ كلا إنما هو فضل الله سبحانه.

 

    3. ﴿وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذي كانُوا يُوعَدُونَ

قد لا يفي الإنسان بوعده حين يعلم بصعوبة ما وعد به، أو تراجعت همته أو.. ولكن الله سبحانه وعده صدق لا تراجع فيه، فهو سبحانه (لا يحفيه سائل ولا ينقصه نائل) فلو سألت الخلائق كل ما جال في خيالها فأعطاهم جميعاً جميع ما سألوا لما نقص من خزائنه شيئاً.

 

الصورة المقابلة للمؤمن

ذكرنا أن هناك حالة فطرية لدى الإنسان هي حالة ترابط الأجيال وتكاملها، وفي المقابل هناك حالة تنافر الأجيال، وبالنسبة إلى هذه الحالة لابد من القول بأن كل جيل يأتي لإكمال مسيرة الجيل السابق له، ولذلك لا يجوز للجيل الواعد أن يقدس الجيل السابق لأن ذلك يمنعه من التقدم، وكما قال الله سبحانه في سورة الحشر: ﴿وَ الَّذينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذينَ سَبَقُونا بِالْإيمانِ وَ لا تَجْعَلْ في‌ قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحيم‌﴾[7] ، وقال أيضاً: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لي‌ وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِساب‌﴾[8] ، فحين يستغفر الإبن لأبوايه ولمن سبقه بالإيمان فذلك يعني أنه يفترض وجود أخطاء لدى الأجيال السابقة ونواقص، فيستغفر لهم لكيلا يقدسهم فيقع في أخطائهم.

فتقديس الجيل السابق خاطئ، وليس الأمر كما صوره أحدهم بأن أفضل الأجيال هو الجيل الذي عاصر رسول الله صلى الله عليه وآله ثم انحدرت الأجيال نحو التسافل جيلاً بعد آخر.فنحن لا نقبل هذا الكلام لأن كل جيل له سلبياته كما له إيجابياته، فالجيل الذي عاصر رسول الله كانت فيه سلبيات لم تكن في الأجيال اللاحقة له، اعظمها أن اغلبهم عاشوا أكثر عمرهم أو ردحاً منهم يسجدون للأصنام، بينما تربت الأجيال اللاحقة في كنف الإسلام.إذاً فنحن لا نعتقد بصحة الماضي برمته، بل نقول بضرورة أن يكون الجيل الواعد مصححاً لمسيرة الماضي ومكملاً مسيرته بتحسين الأداء، ولولا ذلك لا أمل بالتقدم.ولعل الله من أجل ذلك خلق في الإنسان نسبة من التمرد في الأبناء تجاه آبائهم، أي خلق فيهم التطلع نحو الأكمل والأفضل، ولكن هذه الحالة قد تتفاقم عند البعض وتتحول إلى تمرد مطلق، وهذا التمرد الكامل ينهي في الجيل الثاني كلما اكتسبه الجيل الأول من الخبرة والعطاء و إمكانات حضارية، ففي حين يقوم الجيل اللاحق بإضافة لبنة في البناء الحضاري الذي ساهم فيه السابقون، يقوم بهدم البناء من الأساس.

 

    4. ﴿وَ الَّذي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما

الأف تعبيرٌ عن الضجر والملل التام من الأبوين، وهذا مثالٌ سيء يذكره القرآن لمن يعامل آبويه والجيل السابق بهذه الكيفية الفجة.

و ضجر الولد من والديه يدل على أن الوالدة (الأم) لها دورٌ أيضاً في محاولة تربية الإنسان، فهي التي دعته إلى الصلاة مثلاً والأب أيضاً أراد منه أن ينمي شخصيته، وبالتالي كل واحد منهما أمره من زاويته، فهو ضجر من ذلك وضاقت نفسه فأعلن رفضه بقوله " أفٍ لكما".

 

    5. ﴿أَ تَعِدانِني‌ أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلي﴾‌

ويذهب بعيداً ليشكك في أصول العقيدة، ومنها عقيدة الحساب، فهل تعدانني بالخروج في القيامة والحال أن الذين ماتوا من قبل لم يخرجوا ولم نسمع منهم خبرا؟

 

    6. ﴿وَ هُما يَسْتَغيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ

كيف وصل الحال بالأبوين حتى استغاثا بالله سبحانه؟يبدو أنهم استنفدوا كل الوسائل الممكنة في إصلاح هذا الشاب النزق ولما لم تنفعه كل تلك الوسائل صارا يستغيثان بالله ويدعوان عليه بالويل، لأنه كذّب بوعد الله الحق، وعد الله الذي لا يخلف الميعاد.

 

    7. ﴿فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطيرُ الْأَوَّلينَ (17)

بسبب تراكم الحجب يبقى يرفض التصديق بالحق، وراح يصف العقائد الحقة بأنها مجموعة أساطير كانت عند الأولين وتوارثها الأجيال دون وعيٍ وحكمة.

[1] الشعراء/السورة26، الآية84.
[2] الطور/السورة52، الآية21.
[3] المائدة/السورة5، الآية27.
[4] التوبة/السورة9، الآية19.
[5] المطففين/السورة83، الآية18-21.
[6] الفجر/السورة89، الآية29-30.
[7] الحشر/السورة59، الآية10.
[8] إبراهيم/السورة14، الآية41.