38/01/29
الموضوع: سورة الأحقاف/ الآية 15
﴿وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لي في ذُرِّيَّتي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمينَ (15)﴾
إذا انقطع البشر عن الوحي وابتعد عن الرب، عاش في زنزانة ذاته ولم يتجاوز علمه نفسه، وحينئذ سيرى العالم متناقضاً، فيعيش هو بالضد من المحيط ويتصور المحيط ضده، والمحيط بعضه ضد بعض.
ورغم أن البشر لم يدعّي ذلك بهذه الكلية، إلا أن أدلةً تجتمع من جوانب مختلفة تبين هذا الأمر، فالفلسفة البشرية منذ ان أحدثها اليونان وحتى الحديثة منها كانت تسير في إتجاهٍ واحد تقريباً، حتى جاء دارون وعبّر عما كان يجري في خلجاتهم بنظريته (البقاء للأقوى)، فكانت نظريته صبغة الثقافة الغربية وجذرها، فالثقافة الغربية _ بعيداً عن التقنية _ مبنيةٌ على القول بالتضاد في الخليقة، ومن دارون إلى ماركس إلى غيره، حتى جاءوا بنظرية (صراع الحضارات) وهي توحي إلى الحقيقة ذاتها.
والأعلام يركز دوماً على الإفتراس والإقتتال والتحارب سواء بين البشر أو بين الحيوانات المختلفة.
وبعكس ذلك تماماً هو من يؤمن الله ويتخذ منهاجه من وحيه سبحانه، لأن المؤمن بالله يرى أن علاقة المخلوق بالخالق وعلاقة المخلوق بالمخلوق تعتمد على عقيدة التوحيد، فالخالق واحد والكائنات كلهم يشتركون في مخلوقيتهم، حتى أن المؤمن حين يرى الهلال في السماء يقول له: "أَيُّهَا الْخَلْقُ الْمُطِيعُ الدَّائِبُ السَّرِيعُ الْمُتَرَدِّدُ فِي فَلَكِ التَّدْبِيرِ الْمُتَصَرِّفُ فِي مَنَازِلِ التَّقْدِيرِ آمَنْتُ بِمَنْ نَوَّرَ بِكَ الظُّلَم.."[1] ، فعلاقة الإنسان حتى مع القمر مبنية على الإشتراك في المخلوقية.
ومادام الله هو الخالق للإنسان وفي نفس الوقت هو خالق الأشياء كلها، فستكون النظرة بينه وبينها إيجابية، وأما العلاقة بين المخلوقات الأخرى فلو تعمقناها لوجدناها أنها علاقة التكامل لا التضاد والصراع، ارأيت كيف تشرق الشمس على البحر فتثير سحاباً ثم تقوم الرياح بأنواعها الثلاث (المزجية والمكثفة والممطرة) بدفع السحب إلى المناطق البعيدة، فتهطل الأمطار على بذورٍ متنوعة فتنبت نباتاً حسناً يكون طعاماً للإنسان ولأنعامه؟
ويكون كل ذلك في حالة من الوئام التام، والتكامل هذا يكون مع الإنسان أيضاً.. فالإنسان يتكامل مع الأشجار مثلاً، فهي تعطيه الاوكسيجين المحتاج إليه، وتأخذ منه ما ينتجه من ثاني أوكسيد الكاربون.. وهكذا ترى كل شيء يتكامل مع سائر المخلوقات. ولكن ما يؤسف له أن نظرية التضاد عند البشر هي التي سادت وهي التي أبادت الأرض وأظهرت فيها الفساد.
وحسب تقرير صدر قبل أيام، أن أكثر من خمسين بالمائة من الحيوانات البقرية أبيدت خلال أقل من قرن، وهذا الوضع يشبه _ بحسب التقرير_ الوضع الذي حدث قبل ملايين السنين وأدّى إلى إنقراض الديناصورات.
ترى، هل يمكن أن نسمي ما يقوم به البشر من إبادة جماعية للمخلوقات سواء البشر منهم أو الحيوانات، هل يمكن أن نسميه حضارة؟
يبيدون أغلب الناس ثم يرفعوا راية الدفاع عن بعضهم بإسم حقوق الإنسان للتغطية على جرائمهم.
أما النظرية الإسلامية فكل شيء ٍ فيها محبوب، لأنهم بالتالي مخلوقات الله سبحانه، سواء كانت الطبيعة أو الحيوانات أو الإنسان وإن لم يكن مشاركاً للمؤمن في اللون والجنس والعقيدة.
صراع الأجيال
ومن جملة ما يعتبره غير المسلمين تضاداً وتناقضاً هو ما يسميه البعض بصراع الأجيال، وهذه التسمية هي الأخرى تسمية خاطئة يراد منها تصوير العلاقة بين الإنسان وغيره كعلاقة المتصارعين في حلبة النزال.
ويبدو أن الحديث في آيات سورة الأحقاف بدءاً من هذه الآية وحتى الآية التاسعة عشر، تبين عدم حقيقة صراع الإجيال، وإنما هناك حقيقة تكامل الأجيال.
فنحن نعتقد – كما بينا ذلك في تفسير آية سابقة أن القديم بما هو قديم لا لون له لا سلباً ولا إيجاباً، فالقول بصحة القديم لقدمه أو رفضه لذلك خطأ، وإنما يدرس القديم بحسب مقاييس عقلية وحياتية تخدم منفعة الإنسان، فالبستان الذي كان ملكاً لأبيك لا يكتسب جماله وقبحه من وجود أبيك فيه، بل هو بحد ذاته يدل على جماله، ومن هنا لا يصح تقييم الأمور بالزمان، لأنه وعاء للأحداث، وإنما لابد من تقييم الأمور والأحداث بذاتها.
وفي هذه الآية الكريمة حديث عن الأجيال المتعاقبة، التي يراد لها أن تتكامل، والقرآن الكريم يأخذ جيلاً وسطياً، فيضرب مثالاً بشخصٍ في الأربعين من عمره، ومن جهةٍ لديه أبوين ومن جهة أخرى لديه أولاد وذراري.
فمن جهة يشكر الله سبحانه على نعمة الأبوين، وخصوصاً الأم التي حملته وأرضعته واغدقت عليه بالحنان والعطف، والتي لابد له أن يقدرها ويعلم أنه لن يقدر على أداء حقها مهما سعى إلى ذلك، وفي الأثر قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله إِنَّ وَالِدَتِي بَلَغَهَا الْكِبَرُ وَ هِيَ عِنْدِي الْآنَ أَحْمِلُهَا عَلَى ظَهْرِي وَ أُطْعِمُهَا مِنْ كَسْبِي وَ أُمِيطُ عَنْهَا الْأَذَىَ بِيَدِي وَ أَصْرِفُ عَنْهَا مَعَ ذَلِكَ وَجْهِيَ اسْتِحْيَاءً مِنْهَا وَ إِعْظَاماً لَهَا فَهَلْ كَافَأْتُهَا قَالَ: "لَا لِأَنَّ بَطْنَهَا كَانَ لَكَ وِعَاءً وَ ثَدْيَهَا كَانَ لَكَ سِقَاءً وَ قَدَمَهَا لَكَ حِذَاءً وَ يَدَهَا لَكَ وِقَاءً وَ حِجْرَهَا لَكَ حِوَاءً وَ كَانَتْ تَصْنَعُ ذَلِكَ لَكَ وَ هِيَ تَمَنَّى حَيَاتَكَ وَ أَنْتَ تَصْنَعُ هَذَا بِهَا وَ تُحِبُّ مَمَاتَهَا"[2] .
فالإسلام يأمرك ببرها مع بيان أنك لن تؤدي حقها عليك، أما الرؤية البعيدة عن الإسلام تعتبر الأم حاجة يمكن الإستغناء عنها ورميها في دار رعاية العجزة.
فإذا رأيت أنك مهتم بشأن أبويك فأعلم أن هذا أدب دينك وتعاليمه.
1. ﴿وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً﴾
لم يأمر القرآن الكريم بالعدل للوالدين بل أمر بالإحسان، لأن الإحسان يكون فوق أداء حقوقهم.
ويختلف الأمر بالإحسان عن الأمر بالطاعة اختلافا كبيرا، ذلك أن الإحسان ينبعث من اليد العليا، بدافع الإحساس بالاستقلال والقدرة، وصاحبه يقدِّر متى وكيف وبأي قدر يمارسه، بينما الطاعة حالة التسليم والخضوع وفقدان الاستقلال وحسب الأمر الموجه إليه دون أن يكون لصاحبه الحق في تقدير أي أمر منه.
ولم يأمر الإسلام بطاعة الوالدين بل بالإحسان إليهما، لأن الطاعة لله وللرسول ولأولي الأمر، ولا يستطيع الوالدان أن يحرما حلالا أو يحللا حراما، بل أمر بالإحسان إليهما، وقد يتجلى الإحسان في قبول أمرهما في ما لا يخالف الشرع والعقل، ويكون فيه فائدة عائدة إليهما.
ولكن لماذا الأمر بالإحسان لهما؟
2. ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً﴾
في سورة مريم يذكر لنا الرب سبحانه قصة ولادة مريم للنبي عيسى عليهما السلام، والتي قالت حين جاءها المخاض: ﴿قالَتْ يا لَيْتَني مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا﴾[3] ، وفعلاً فإن من أصعب الساعات على المرأة ساعة الولادة، وتموت كثير من النساء في طلقهن، حتى اعتبرهن الإسلام شهيدات.
والأم تحمل ولدها كرهاً لأن الجنين يمتص كل وجودها منذ بداية الحمل، حتى أن بعض الأمهات يصبن بمشاكل في الأسنان بسبب نقص الكاليسيوم الذي يمتصه الجنين من جسمها، فالجسم يضحي بكل ما يملك لينمو الجنين.
3. ﴿وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً﴾
تستمر مرحلة الحمل والرضاعة حوالي تسعمائة يوم أي قرابة ثلاث سنوات، لكن لا تنتهي رعايتها له بل تستمر حتى بلوغه.
4. ﴿حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعينَ سَنَةً﴾
تغذيه أمه وتغدق عليه بالعطف، وتوفر له كل حاجاته، حتى يبلغ أشده، أي بلوغ مرحلة إشتداد العظم، وذلك يكون عند السني الثالثة عشر حتى الخامسة عشر، ولذلك إذا أريد اليوم معرفة بلوغ المراهق عرضوا عضامه على الأشعة.
وهذا هو البلوغ الأول، الذي يبدأ تكليف الإنسان، ولكنه يستمر في النمو حتى يصل إلى مرحلة البلوغ الثاني، وهي سنة الأربعين من عمره.
فالبلوغ الأول يكون بين عمر الثالث عشر والخامس عشر والبلوغ الثاني يكون في الأربعين، وبعض الأديان وحتى بعض المذاهب المنتسبة للإسلام يعتبرون البلوغ الذي به يكون التكليف هو الأربعين.
وبإكتمال الأربعين سنة تكتمل شخصية الإنسان بجهة الصلاح أو بجهة الفساد، وقد روي: "اذا بلغ الرجل أربعين سنة و لم يتب مسح ابليس وجهه و قال: بأبي وجه لا يفلح"[4] .
وحين يصل المؤمن إلى تلك المرحلة العمرية، يفكر مع نفسه.. كيف أنه قد بلغ هذا العمر ورزقه الله الأولاد والبنين، ويتسائل في داخله عمن اوصله إلى هذه المرحلة؟
اليس أبواه هما اللذان سهرا الليالي ونصبا الأيام وتعبا عليه حتى اشتد عوده؟ اوليس الله سبحانه هو الذي عطف عليه الأب العطوف والأم الحنون؟ وحينها يصل إلى وعي الحقائق فيدعو ربه قائلا:
5. ﴿قالَ رَبِّ أَوْزِعْني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ﴾
أي وفقني للشكر، لماذا يسأل التوفيق على الشكر ولا يؤديه هو؟
لأن الإنسان يعجز عن اداء شكر النعم العظمى، ولذلك فإنه يطلب من الله سبحانه أن يمده بالقدرة على الشكر، وهذا ما قاله النبي سليمان عليه السلام حين مرّ على واد النمل وسمع مقالة النملة، قال تعالى: ﴿فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْني بِرَحْمَتِكَ في عِبادِكَ الصَّالِحين﴾[5] .
فلو فكّر المرء في نفسه، كيف أن الله أنعم عليه بأن خلقه تاماً سوياً ولم يخرج من بطن أمه معاباً مريضاً شقياً، لوجد أن النعم أعظم من أن تشكر.
وللإمام الحسين عليه السلام في دعاءه يوم عرفة التفاتة عظيمة، وهي شكره لله أن ولد في دولة العدل وفي زمان ظهور الإسلام، الأمر الذي يسّر على الإنسان الإيمان والعمل بشرائعه.
فنعم الله على الإنسان عظيمة وجليلة لن تعد ولن تحصى، وكذلك على والديه، فمن نعم الله عليهما أن رزقهما مراعاتي و الوصول به إلى حيث هو.
6. ﴿وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ﴾
الشكر شكران، شكرٌ بالقلب واللسان، وشكر بالعمل، فالمؤمن يسأل الله أن يوفقه للعمل الصالح المرضي عنده، فهل هناك عملٌ صالح لا يرضاه الله؟
بلى، العمل الصالح بترك الواجب، كمن يبني المسجد وهو يترك الصلاة، وكمن يترك الجهاد بحجة اداء الصلاة، فهذه أعمال صالحة ولكنها غير مرضية لله سبحانه.
7. ﴿وَ أَصْلِحْ لي في ذُرِّيَّتي﴾
كما أن الآباء تعبوا من أجله وسهروا في تربيته، وأوصلوه إلى الصلاح في الجسم والروح والدين، يسأل المؤمن ربه أن يوفقه ليقوم هو بنفس الدور مع ذريته، فهذا دينٌ على الإبن من الأب ولابد أن يفي به في أبناءه.
ومن لطائف التعبير القرآني قوله (لي) والذي يدل على أن الإنسان هو المنتفع بصلاح ذريته سواءً في الدنيا أو الآخرة.
وحرف (في) يدل على الإمتداد في الذرية وعدم الإقتصار على الأولاد فقط.
8. {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمينَ (15)}
بعد إنتهاء مرحلة الشباب التي شابها بعض النزق والخرق واللمم، يسأل المؤمن ربه التوبة عما بدر منه فيما سبق، ويعلن التسليم التام لأمر الله سبحانه فيما يأتي.
بمقارنة بسيطة بين هذه الرؤية وبين رؤية البشر القائلة بصراع الأجيل، نعرف مدى عظمة الإسلام وكتابه العظيم القرآن الكريم الذي يأمرنا بتكامل الأجيال، وهذا من مكاسب الإنسان بإيمانه بالله سبحانه.