38/01/28
الموضوع: سورة الأحقاف/ الآية 12 و 14
﴿وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً وَ هذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذينَ ظَلَمُوا وَ بُشْرى لِلْمُحْسِنينَ (12)إِنَّ الَّذينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدينَ فيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14)﴾
هناك أكثر من بصيرة نستفيدها من السياق القرآني في هذه الآيات الشريفة:
البصيرة الأولى: القدم والحداثة ليسا معيارينهناك معايير خاطئة قد يتمسك بها الإنسان في تعيين الحقيقة وتمييزها عن الباطل، ومن تلك المعايير الإعتقاد السائد لدى البعض بأحقية القديم وبما كان عليه السلف، سواء كان الفعل أو الفكرة صالحة أو غير صالحة، وسواء كان السلف صالحاً أو لا، فما دامه قديم فهو مطلوب.
حتى أنك ترى بعض كبار السن يتحادثون فيما بينهم مستذكرين أيام التخلف متمنين رجوعها، معتبريها أفضل معيشة كانوا فيها.. فالحنين الى الماضي وبالأخص في السني المتقدمة من عمر الإنسان قد يكون عقبة في طريق تطور الإنسان وفي فهمه للحياة.
كما يمكن أن يكون العكس كذلك خاطئاً، حين يرفض البعض كل ما هو قديم ويتهم القائلين ببعض الأمور التاريخية بالرجعية. وقد عايشنا بمعاناة مع جيلين، جيلٌ يقدس الماضي تقديساً أعمى، وجيلٌ كفر بالماضي كفراً تاماً.
ويبدو لي أن سورة الإحقاف في إتجاه أن ليس كل قديم خاطئ وبيانٌ لهذه البصيرة في هذه الآية، وكذلك يعيد تبيين المطلب في الآية السابعة عشر – كما سيأتي إن شاء الله -.
والواقع أن القدم والجديد ليسا معياراً للحق والباطل، وإنما الحق هو المعيار فكلما كان العمل ذاته والفكرة ذاته تتوافق مع العقل وقيمه، ومن هنا لابد من إلغاء معيار الزمن لتمييز الأفكار، والتمسك بمعيار العقل ومدى نفع الفكرة.
البصيرة الثانية: إمتداد الرسالات الإلهيةالرسالات الإلهية في جوهرها واحدة وممتدة، فمن أول نبي في سلالتنا وهو النبي آدم عليه السلام وحتى خاتمهم المصطفى صلى الله عليه وآله دعوا إلى إلهٍ واحد وقيمٍ واحدة.
وهذه القضية هامة جداً لأنها تسهم في إمتصاص العصبيات القائمة بين أتباع الديانات، والتي كانت سبباً في أكثر الحروب دماراً في التاريخ وبإسم الدين، كالحروب الصليبية التي شنّها مجموعة من الإنتهازيين بإسم الدين للتشفي من المسلمين، وحتي يومنا الحاضر.
إمتدادات الحروب الصليبيةوأنا أقول للغربيين أنهم لا زالوا في أجواء الحروب الصليبية، فالمستشرق الغربي لا زال حاقداً على المسلمين ويحكم عليهم بغير حياد وموضوعية، والمنظمات الحقوقية تنظر إلى المسلمين بعينٍ عوراء، ألا ترى إلى عشرة ملايين إنسان يهددهم الموت من خلال الأمراض والمجاعة، ولكن دونما تجد تحريك ساكنٍ من قبل العالم ومنظماته الحقوقية ولجانه الإنسانية؟
ولكن في المقابل ترى كيف يحتفون بفتاةٍ إيزدية ويقدموا لها جائزة نوبل، أليس ذلك ليظهروا المسلمين في مظهر الوحوش أمام أنظار العالم؟
تراهم يقيمون الدنيا ولا يقعدونها في الدفاع عن بعض الحيوانات المهددة بالإنقراض ولكنهم لا يهتمون ببشرٍ يقتلون بالآلاف ولا تطرف لهم جفنٌ لما يشاهدوه.
هم يتهمون المسلمين بمذبحة الأرمن والتي ندينها نحن المسلمين وندين كل جريمة وعمل ضد الإنسان والإنسانية، ويصطرخون بذلك، ولكن كم كان عدد الأرامنة ؟ هل كان عددهم يتجاوز المليون جزائري الذي سحقته ماكنة الإستعمار الفرنسية؟
نحن نؤكد على وحدة الرسالات الإلهية، فلا فرق بين نبيٍ ونبي، فنحن نعترف ونؤمن بالأنبياء جميعاً، وتمسكنا بنبينا العظيم محمد صلى الله عليه وآله لا يعني أن ننكر الأخرين أو نقتل أتباع سائر الأنبياء، أوليس القرآن مليء بقصص الأنبياء الماضين وفيه الأمر بإتباع هداهم؟
ومن هنا نجد تكرار التأكيد في الآيات القرآنية على أن رسالة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله هي إمتداد للرسالات السابقة، مصدقةٌ لها، ومهيمنة عليها.
الإيمان بين الظنون والعملليس الإيمان مجرد لقلقة لسان، وليس بالتضني والتمني، فالإيمان وقرٌ ( ثقل) يدخل القلب ومن أبرز ضفاته وعلاماته الإستقامة، فمن أدعى الإيمان يمتحن وقد يأتي إمتحانه فور إدعائه للإيمان.
الا ترى لمدعي الطب والهندسة يطالبه الناس بالدليل والوثيقة المكتوبة أو العملية الدالة على صدق مدعاه ؟ ولا تعدوا الهندسة والطب وغيرها أمور دنيوية، وهكذا أهم الأمور وهو الإيمان لا يمكن أن يكتفى فيه بالإدعاءات الفارغة.
فالإيمان بحاجة إلى إستقامة، ومضافاً إليها العمل الصالح، فإن كنت تريد الجنة والخلود فيها فلابد أن تسعى عملياً للحصول على ذلك.
1. ﴿وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً﴾
أي من قبل هذه الرسالة كان التوراة، وقد بيّن القرآن الكريم أن النبي ليس بدعاً من الرسل.ويتجلى بديع القرآن في هذه الكلمة، كيف؟أن الإمام يشمل الكتاب كما يشمل النبي موسى عليه السلام، فهو إمامٌ مع الكتاب، والذي يعني أن من دون كتاب الله لا يمكن للإمام أن يكون إماماً ومن دون الإمام لا يمكن الإنتفاع بالكتاب.وفي سورة آل عمران نجد بيان هذه الحقيقة في سورة آل عمران: ﴿وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَ فيكُمْ رَسُولُهُ وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقيم﴾[1] ، فالاعتصام بالله وبحبله كما في الآية الثالثة بعد المائة من نفس السورة، لا يكون إلا بالتمسك بالكتاب والرسول،وبعده كتاب الله والحجة من بعد الرسول صلى الله عليه وآله، ومن بعده من جعلهم حجةً على الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ وَ عِتْرَتِي وَ لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ"[2] .
فالنبي موسى عليه السلام يمثّل الكتاب، والكتاب يؤكد على ضرورة وجود النبي، فتم نسبة الكتاب إلى موسى مع أنه كتاب الله سبحانه لبيان ضرورة الإمام.وبذلك يتبين خطأ دعوى القائلين بعدم الحاجة إلى أولياء الله وإلغاء دورهم في الدين، كما هو الرأي السائد عن أتباع محمد بن عبد الوهاب.فالنبي موسى عليه السلام الذي حمل الكتاب، هو الإمام وهو الرحمة أيضاً، صحيحٌ أن الرحمة الكبرى هو نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله، فهو الرحمة المهداة وهو رحمة للعالمين، كما قال الله سبحانه: ﴿وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمين﴾[3] ، ولكن يبقى كل نبيٍ رحمة.
والكتاب يعني الدستور الكامل والبرنامج والواضح الموجه لمسيرة الأمة، فأية أمة من دون دستورٍ وبرنامج لا يمكن أن تسمى أمة.وهكذا فالكتاب رحمة، ثم موسى عليه السلام رحمة بإعتباره إماماً، ونتيجة الكتاب والإمام هي الرحمة التي تعني التقدم والسلام والأمن وكل خير.2. ﴿وَ هذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا﴾
ذكرنا فيما سبق أن الرسالات السابقة بدورها شهادة على صدق الإسلام والكتاب مصدقٌ للكتب الماضية، ومن أمتيازاته أنه كتاب بلسانٍ عربي مبين.
3. ﴿لِيُنْذِرَ الَّذينَ ظَلَمُوا﴾
إنذار للظالمين، فما هو الظلم؟الكفر بالرسالة، إذ هو ظلم للنفس وظلم للرسالة وظلم للناس.4. ﴿وَ بُشْرى لِلْمُحْسِنينَ (12)﴾
في مقابل الإنذار للظالم تكون البشرى للمحسنين، فمن هم ؟ هذا ما تبينه الآية التالية:5. ﴿إِنَّ الَّذينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا﴾
فلا يفكي مجرد الإدعاء بالإحسان ليكون محسناً، فلابد من سلوك وإستقامة، ولفظة " ثم" تفيد أن الإنسان بعد إيمانه تبدر منه أخطاء ويقع في الذنوب، ولكنه يتوب ويرجع حتى يصل إلى مستوى الإستقامة، وكما قال الله لنبيه العظيم في سورة هود: ﴿فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ وَ لا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصير﴾[4] .
ومن هنا فلابد للمؤمن أن يعرف أنه لن يصل إلى الإستقامة من اليوم الأول، فلابد أن يسير في تكامل إيمانه ومعرفته ويعمل بالمزيد من العمل الصالح، حى يصل إلى مرحلة الإستقامة.6. ﴿فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)﴾
للإنسان حالة حزن نفسية تجاه ماضيه وخوف من مستقبله، فحين يتأمل ماضي أيامه يتداخله الحزن لما بدر منه من أخطاء، الأمر الذي يشكل عقدة نفسية تدعوه لليأس، ومن أجل التخلص منها يأمره الله سبحانه بالإستقامة.وكذلك حين يفكر في ما سيؤول إليه أمره يتداخله الخوف، ولذلك فالمؤمن الذي يستقيم على إيمانه يؤمنه الله سبحانه من الحزن والخوف، فأول ما يخرج المؤمن من قبره في عرصات القيامة، وهول المطلع يأخذ منه عظيم المأخذ، يلقاه ملكٌ يؤمن روعته ويبشره بالجنة.7. ﴿أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدينَ فيها﴾
الصاحب هو الملازم، والمستقيم على إحسانه وإيمانه ملازم للجنة وصاحبٌ لها وخالدٌ فيها، لأنهم دفعوا ثمنها في حياتهم، وإن كان ما بذلوه أقل بكثير مما حصلوا عليه.8. ﴿جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14)﴾
جزاءً لأعمالهم الصالحة يؤتيهم الله الخلود في الجنان.وتهيدنا هذه الآية إلى حقيقتين:الأولى: أن مجرد الإيمان والإستقامة عليه لا يكفيان، بل لابد من ترجمة ذلك على واقع العمل والسلوك.الثانية:إن الجزاء يتناسب ومستوى العمل ومقداره، فكلما كان المؤمن أكثر عملاً للصالحات كان جزاءه أوفر.نسأل الله أن يجعلنا من الذين استقامو على الطريق ويخفف علينا حمل الابتلاءات ( ولا تجهد بلائي ) بحق محمد وعترته الطيبين الطاهرين.