الأستاذ السيد المدرسي

التفسير

38/01/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: سورة الأحقاف/ الآية 9 و 11

 

﴿قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَ ما أَدْري ما يُفْعَلُ بي‌ وَ لا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى‌ إِلَيَّ وَ ما أَنَا إِلاَّ نَذيرٌ مُبينٌ (9) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني‌ إِسْرائيلَ عَلى‌ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمينَ (10) وَ قالَ الَّذينَ كَفَرُوا لِلَّذينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَديمٌ (11)﴾.

القرآن الكريم كتاب التوحيد الخالص النقي، الذي لا يشوبه شائبة، فلو تدبر الإنسان في آيات الكتاب وأستوعب أنواره لزاد يقيناً بربه وابتعد عن الشرك، وكما هو معروف بأن الشرك يدبّ في قلب الإنسان دبيب النمل _كما في الأحاديث الشريفة _، وليس من السهولة أن يتخلص الإنسان من آثار الشرك، فالشرك أكبر ظلم وأكبر فساد للإنسان وفي نفس الوقت تجد الإنسان قريبٌ منه، فيقع الإنسان في الشرك بأقل ما يكون، سواء الشرك فيما يربتط بالثقافة أو بالسياسة أو بالإقتصاد أو بالسلوك الشخصي – كالرياء مثلاً -، لذلك حتى المخلَصون على خطر عظيم.

ومن هنا يدعو المؤمن ربه يومياً عدة مرات قائلاً: ﴿اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقيم‌﴾[1] فالصراط المستقيم قد هداك الله إليه أيها المؤمن، حتى صرت تصلي وتقرأ سورة الفاتحة، ولذلك تقول في ختامها كما أمر الأئمة الأطهار عليهم السلام: "الحمد لله رب العالمين"، دون أن تقول: "آمين"، لأن كلمة آمين تدل على عدم الوصل إليه، بينما الحمد يعني الشكر على نعمة الصراط المستقيم الذي هداك الله إليه وسؤال الثبات عليه، لأن القلب قد يزيغ بعد الهداية وكما قال ربنا سبحانه: ﴿َبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّاب‌﴾[2] .

فالإنسان على خطر، وقد يسقط في مستنقع الشرك في أي لحظة، ولذلك كان عليه أن يدعو ربه يومياً وبإستمرار ليقيه منه، ويلصق نفسه بعباد الله الصالحين كي يدخله الله مدخلهم ويكون في خطهم.وقد يدخل الشرك من حيث الإيمان، كيف؟

وذلك من جهة الغلو في الإيمان، كما قالوا في النبي عيسى عليه السلام أنه إبن الله لما شاهدوا منه من المعاجز المختلفة، أو قالت اليهود ذلك في شأن عزير، قال الله سبحانه ﴿قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا في‌ دينِكُمْ غَيْرَ الْحَق‌﴾[3] ، وكذلك الأمر بالنسبة لنبينا الأكرم صلى الله عليه وآله والأئمة من أهل بيته الذين غالى فيم بعض فأدعى ربوبيتهم.

أما نحن فبالنسبة للنبي الأعظم وأهل بيته عليه وعليهم السلام، نقول قولاً عظيماً، لكن كل ذلك مرتبطٌ بربهم، فنقول أن النبي صلى الله عليه وآله صار أقرب " مخلوق" إلى ربه فكان قاب قوسين أو أدنى، فأراه الله ما أراه، وأعطاه الله سبحانه الوسيلة له دون غيره من المخلوقات، ولكن كل ذلك نتجنب الشرك فيه، فليست تلك الأمور كلها ذاتية للنبي، بل كلها كان بالله سبحانه.وقد أجاب أمير المؤمنين عليه السلام إبن الكوّاء الذي كان معنتاً في المسائل على سؤاله بشأن الأنبياء ووقوعهم في الخطأ، بأنهم وقعوا بما وقعوا فيه لكيلا يتخذهم الناس أرباباً من دون الله.وحسب إستقرائي في سيرة الأنبياء تبيّن لي أن المقامات العلية للإنبياء يكون بعد إمتحانهم، فالإجتباء والإصطفاء الإلهي للأنبياء يكون بعد زلتهم وتوبتهم منها، فيجتبيهم الله ويرفعهم مقامات سامية، كما كان مع النبي آدم والنبي داوود والنبي سليمان وغيرهم من الأنبياء على نبينا وآله وعليهم الصلات والسلام، فبعد تركهم للأولى – كما يسميه العلماء – يتوب الله عليهم.إذاً فما وقع فيه الإنبياء عليهم السلام كان مفيداً لهم من جهة التسامي في الدرجات، ومفيدٌ للبشر كي لا يتخذوهم أرباباً من دون الله، وفي الآية التاسعة كلمة تركنا الحديث عنها لهذا اليوم، وأساساً الآيات الثلاث التاسعة حتى الحادية عشرة مرتبطة ببعضها وثيق الإرتباط.

﴿وَ ما أَدْري ما يُفْعَلُ بي‌ وَ لا بِكُمْ

لماذا هذه الكلمة؟

أولاً: أن الأنبياء أعطاهم الله علم بالمغيبات وليس بذاتهم علموها، فلسببٍ من الأسباب يمكن أن يسلبه منهم، مثل سلبه سبحانه العلم بما ستؤول إليه الأمور عن النبي موسى عليه السلام في مواجهته للسحرة، فحين رأى سحر السحرة أوجس في نفسه خيفةً على تأثر القوم بالسحر وبالتالي ظلالتهم، وكما قال الله سبحانه: ﴿فَأَوْجَسَ في‌ نَفْسِهِ خيفَةً مُوسى‌ * قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى‌﴾[4] ، فموسى في تلك اللحظة أصبح علمه بالأمور علماً بشرياً لأن الله لم يمنحه العلم بعاقبة الأمر، وبتسليمه للأمر الإلهي تسامى.

فالأنبياء، عليهم السلام، بشرٌ يسلمون للأوامر الإلهية تسليماً مطلقاً، قال الله سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‌ إِلَي‌﴾[5] .

ثانياً: لوجود البداء، إذ أن الله سبحانه فعالٌ لما يشاء وقادر على ما يريد، فإذا قدّر الله أن يعدم الوجود هل لأحد أن يمنعه أو يسائله عن فعله؟ في آخر دعاء السمات وكثير من الأدعية، نقرأ عبارة: "إنك على شيء قدير" وهذه الكلمة تبين المعنى الحقيقي للدعاء الذي هو جوهر العبادة، فالداعي يدعو الله سبحانه لعلمه بقدرة الله المطلقة على كل شيء وإعترافه بعدم محدوديتها بحدٍ.

فإذا أراد الله سبحانه أن يرحمهم أو يعذبهم، فلا يمكن لعلم الغيب أن يمنع إرادة الله سبحانه وتعالى في المستقبل، وذلك قال النبي صلى الله عليه وآله كما حدثنا القرآن الكريم ﴿وَ ما أَدْري ما يُفْعَلُ بي‌ وَ لا بِكُمْ﴾، وتقديم النبي الأكرم صلى الله عليه واله الحديث عن شخصه [ما يفعل بي] لبيان بشريته لئلا يتخيلوه إلهاً من دون الله.

{إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى‌ إِلَيَّ}

فلا يقوم النبي صلى الله عليه وآله إلا بما يوحى إليه بتسليمٍ مطلق، كما فعل النبي موسى عليه السلام من قبل.

ومن ذلك حين أمر الله نبيه بتبليغ أمر ولاية أمير المؤمنين عليه السلام، حذّره من عدم التبليغ ووعده بمساندته في تبليغه لأمر الولاية حيث قال سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرين[6]

وظاهر الآية تدل على تطييب خاطر النبي صلى الله عليه وآله، وأن لا يخاف من تكذيب قومه له في هذا الأمر، فالله يعصمه من الناس، فكانت إستجابة النبي للأمر الإلهي مدعوماً بعصمة الله سبحانه المضافة إلى عصمته الدائمة، فقد كان من الممكن أن تحاك ضده مؤامرة بالتصفية الجسدية _ كما كانت محاولات من قبل_ بسبب تبليغه للأمر في غدير خم، ولكن الله عصمه كما وعده.وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله يعمّل بما مثّل له من وحي، وينتظر الأمر الإلهي.

 

الملأ والهروب من الإيمان

﴿وَ قالَ الَّذينَ كَفَرُوا لِلَّذينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ

قولهم للذين أمنوا لم يكن مواجهةً معهم، بل تكلموا عنهم وتكلموا ضدهم، بأن ما اتبعوه ليس بخير بحجة أنهم هم السباقون للخيرات.وحسب ما نفهم من القرآن الكريم، عادةً هناك طبقات في المجتمع: طبقة الملأ الذين يملأون العين، وطبقة الاغنياء وطبقة الفقراء، والرسالة الإلهية لا تخص فئةً دون أخرى وطبقة دون أخرى، فليست الرسالة خاصة بالملأ أو الأغنياء، بل تشمل الجميع وتخاطبهم جميعاً، وبإعتبار أن الفقراء هم الأكثرية فعادةً هم الذين يؤمنون بهذه الرسالة.وبعد إيمان الطبقة المستضعفة والفقيرة يتداخل الحسد قلوب الطبقات الأخرى، فما دام الفقراء هم الذين اتبعوا هذا الدين فلا نتبعه نحن، ويسعوا للنيل من الدين وقيادته ومن أتباعه أيضاً.

فحتى لو اضطروا للإيمان الظاهري تبقى جمرة الحقد في قلوبهم، فقد كان أبو سفيان لعنه الله ومعه مجموعة من الملأ من قريش بعد فتح مكة جلوساً في المسجد فشاهدوا بلالاً وقد أمره النبي صلى الله عليه وآله بالصعود على الكعبة والصدع بالإذان من فوقها، فقال أحدهم: "أما وجد محمدٌ غير هذا الغراب الأسود مؤذناً _ وهو يقصد بلال_، فقال له أبو سفيان: إني لا أقول شيئاً والله لو نطقت لظننت أن هذه الجدر تخبر محمداً، وبعث صلى الله عليه وآله إليهم فأخبرهم بما قالوا.."[7] .

فكانت العصبية قد أعمتهم عن رؤية الحق، فما كانوا يؤمنون، ولذلك قال بعض المفسرين في تفسير هذه الآية أن المقصود من كلامهم هو أبو ذر الغفاري رضوان الله عليه، لأن عشيرة غفار كانت عشيرة متخلفة من بين العشائر، وأبوذر بدوره كان فقيراً لا يملك إلا صدق اللسان، فأمتنع هؤلاء من الإيمان بحجة إيمان أبي ذر الذي لم يكن من قريش ولا من بني هاشم أو من بني هاشم أو..وليس الأمر مختصاً بالأنبياء وأقوامهم، بل نجد الأمر حتى في إتباع العلماء الربانيين والحركات الرسالية، حيث يمتنع بعض الأغنياء وأصحاب المكنة من اتباعهم لسبق المستضعفين لهم، فيستخفون بها حسداً منهم.ويجب أن نعتبر بهذا المصير الأسود، فلا تتسبب العصبية في إبعاد الإنسان عن الدين وعن الحق، فبداعي أن بعض الناس المستضعفين اتبعوا المرجع الفلاني أو الخط الرسالي الفلاني يبتعد الإنسان عن الصواب، ومع الأسف فهذه المشكلة يقع فيها بعض المؤمنين حتى، من حيث لا يشعرون، أو من حيث يشعرون حتى والعياذ بالله، فيتخذون سلاح الاستهزاء والسخرية سلاحاً ضد إخوانهم ويتبعون القيم المادية في الحكم على الناس، فتكون المادة حجاباً بينهم وبين الحق.

﴿وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَديمٌ (11)﴾.

وحجاب العصبية والنظرة المادية إلى الناس، سبب لهم عدم الإهتداء إلى الحق، لأن نور الهداية يدخل قلباً لا حجاب عليه، أما القلب المحجوب فلا يدخله الهدى.ولمواجهة الناس وأنفسهم، برروا عدم الهداية بأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله أفكٌ قديم.وفي قولهم "إفكٌ مبين" اعترافٌ على أن الرسالة ليست بدعة، والرسول ليس بدعاً من الرسل.وكثير من كلمات الجاهليين حول الرسول صلى الله عليه وآله أو حول الرسالة، إعترافٌ ضمني بصدق دعواه وصدق رسالته، فحين يتهمون النبي الأعظم بالجنون _ حاشاه_ فهذا إعترافٌ ضمنيٌ منهم بتوكله على الله سبحانه وثقته وشجاعته وبطولاته، ولكنهم يعبرون عن هذه الحقائق بكلام قذر، وكذلك حين قالوا عن الرسالة أنها سحر إنما هو للتأثير الكبير الذي تركته الرسالة على نفوسهم.في الآية التاسعة قال النبي أنه ليس بدعاً من الرسل، وفي الآية العاشرة بيان لشهادة الشاهد من بني اسرائيل على صدق الرسول، وأنها في إطار الرسالات الأخرى، وهنا اعترف هؤلاء بهذه الحقيقة بقولهم "هذا إفكٌ قديم".

 


[1] الفاتحة/السورة1، الآية6.
[2] آل عمران/السورة3، الآية8.
[3] المائدة/السورة5، الآية77.
[4] طه/السورة20، الآية67-68.
[5] الكهف/السورة18، الآية110.
[6] المائدة/السورة5، الآية67.
[7] مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج1، ص180.