38/01/16
الموضوع: سورة الأحقاف/ الآية 1 و 2
﴿حم (1) تَنْزيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزيزِ الْحَكيمِ (2)﴾الكلمات المقطعة في بداية السورة كثيرة ومتنوعة، وقد تحدث عنها المفسرون وبينّوا وجوهاً عديدة في تفسيرها ربت على عشرين قولاً، بالرغم من ذلك إلا أن لهذه الكلمات أثراً في نفس الإنسان، وأبسط أثر لها هو تنبيه الإنسان، اليس الصوت يعد منبهاً له؟بلى، قد تقوم بتنبيه صاحبك بحرفٍ أو حرفين وإن خليا من المعنى بغية إلفات نظره، كما هو حال الجنود في المعسكر تأتيهم أصوات لا معنى لها سوى تنبيههم.ومضافاً إلى التنبيه فهي تحوي في طياتها أفكاراً ومعارف عميقة، إذ هي إشاراتٌ بين الله وبين عباده المخلصين وهذه من معاني هذه الكلمات، ونحن لا نفهم تلك الإشارات أو نفهم من الأحرف غير ما يفهمه أولياء الله سبحانه، وما دامت خاصة للأولياء فما نفع إيرادها في القرآن؟الهدف الأساس للقرآن يكمن في تحريك الفكر وإثارة العقل، وربما لم يفهم الكثير ممن قرأ هذه الأحرف شيئاً منها ولكنهم استفادوا تحريك الفكر وتشغيل العقل، حيث تسائل كلٌ في داخله عن معنى الحاء والميم مثلاً.. وتحريك الإنسان لعقله وعلمه هدفٌ قائم بذاته يبتغيه القرآن الكريم.أما في حروف "حم" ربما نجد إشارات أخرى، فالسور الأربع، بدءاً من سورة الشورى وانتهاءاً بسورة الأحقاف تبتدء بأحرف "حم" و تتحدث السور جميعاً عن القرآن الكريم، وكأن الله يكشف للناس أن هذه الكمات والأحرف المقطعة قد أنزل منها كتاباً بهذه البلاغة والحكمة والفصاحة، وقد أشار إلى هذا القول بعض المفسرين أيضاً.وكأن الأحرف هذه هي أساس القرآن العظيم، كما يبين القرآن الكريم أصل الإنسان الذي كان نطفةً فخلق الله منها بشراً تاماً سوياً، كذلك هذه الكلمات صارت قرآناً حكيما.وثمة دلالة أخرى في خصوص حرفي "حم" هي أن حرف الحاء يلفظ بفتح الفم كله، والميم بإطباقه التام، وبين فتح الفم وإغلاقه سائر الأحرف.
﴿تَنْزيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزيزِ الْحَكيمِ﴾
1. ﴿تَنْزيلُ الْكِتابِ﴾
القرآن الكريم أنزل مرةً ونزّل أخرى، أنزل في ليلة القدر دفعةً واحدة ونزّل منجماً طوال فترة الرسالة أي في فترة ثلاثة وعشرين سنة.
وبالرغم من طول فترة إكتمال تنزيله إلا أن المتأمل في آياته لا يجد إختلافاً بين أول آية نزلت وأخر آية، فآياته الكريمة متشابهة في العمق والبلاغة، إلى درجة اختلف المفسرون فيما بينهم في تعيين كون السورة مكية أو مدنية، فلو كانت للسور والآيات صبغة معينة لما اختلفوا في ذلك.
فآيات القرآن في مستوىً واحد وإن طالت فترة نزولها، وتصدق آياته بعضها بعضاً، وتفسر بعضها بعضاً، وقد قمت شخصياً في موسوعة التشريع الإسلامي بمحاولة لفهم معاني الكلمات من القرآن ذاته وكانت النتائج عظيمة.
فتنزيل الكتاب كان بصورة منجمّة، فما معنى الكتاب؟
الكتاب هو الشيء الثابت الذي لا رجوع فيه، كما في قوله سبحانه: ﴿كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَة﴾[1] ، وسمي القرآن كتاباً لبقاءه وثبوته بين الناس.
ومن مظاهر إعجاز القرآن أنه كتاب منزّل، إذ أن التنزيل يدل على التدرج والكتاب يعني الثابت – كما مرّ- وبالرغم من نزول القرآن في سنوات ثلاثة وعشرين مليئة بالظروف العصيبة من حرب وهجرات وتعذيب وسجن و.. الّا أن آياته بقيت متناسقة ومتناغمة ولم يطرء عليها تغير بطروء التغير في الظرف الإجتماعي أو السياسي، وهذا دليلٌ واضح على كونه منزّلاً من عند الله سبحانه.كيف نعرف قيمة القرآنونتوقف هنا عند تساؤل: ما هو أقرب الطرق لمعرفة قيمة الكلام وفهمه؟أقرب الطرق هي في معرفة المتكلم، فكلما كان المتحدث أعظم كانت قيمة كلامه أعلى، وكما قيل: "كلام الملك ملك الكلام"، فتختلف الكلمة والقرار الواحد الصادر من شخصين مختلفين في مستواهما العلمي والمعرفي والإجتماعي.ولأن مصدر القرآن هو الله سبحانه وأنه كلام الله عزوجل فيعني ذلك أن القرآن تتجلى فيه أسماء الله الحسنى، ومن هنا نجد الحديث هنا - وفي أغلب موارد ذكر القرآن – عن منزّل القرآن وهو الله سبحانه.
2. ﴿مِنَ اللَّهِ الْعَزيزِ الْحَكيمِ﴾
الأسماء الحسنى المذكورة في بداية السور القرآنية تفتح للمتدبر آفاقاً لفهم آيات السورة نفسها، فمثلاً هنا ذكرٌ عن العزة وبفهم العزة نستوعب جوانب هامة من قصة (الأحقاف)، وأكثر الأسماء الإلهية تجلياً في كتاب الله المجيد إسما العزة والحكمة، فما هي العزة وما هي الحكمة؟لقد مرّ الحديث عن الحكمة في الدرس السابق، إذ أن كل شيء مخلوق بالحق أي بسنة واضحة وبوقت محدد ( أجلٍ مسمى).. والسنن الإلهية لا تخلو جزيئة في الكون منها، وكتاب الله المجيد إنعكاس لتلك السنن.فالقرآن الكتاب التشريعي الذي حوى كل تلك السنن الموجودة في الخليقة، فالقرآن إذن تجلي لكل الكائنات فهو كتابٌ حكيم من الله الحكيم.العزة بمعنى القوة التي تفرض نفسها، فالعزيز هو القوي المستعمل لقوته ومن دون استعمالها لا يكون عزيزاً، بل قد يكون ذليلاً وإن كان قوياً كما هو حال المسلمين اليوم، فبالرغم من امتلاكهم للقوة المادية والبشرية الا أنهم يعيشون الذل لعدم إستعمالهم لقوتهم.والله سبحانه قويٌ عزيز، أي يستعمل قوته في قهر عباده، ولكن ما هي علاقة القاهرية الإلهية والجبارية الربانية وعزة الله بالقرآن الكريم؟أولاً: ما دام القرآن جاء من عند الله سبحانه العزيز، فهو يتكفل بحفظه ويمنع أيادي التحريف أن تصل إليه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُون﴾[2] ، فرغم المحاولات الشتى التي بذلها ويبذلها أعداء الحقيقة لطمس أو تحريف القرآن الكريم عن مواضعه، بقي القرآن مطهراً من الأدران ومعصوماً من التلاعب.
ثانياً: إن العامل بالقرآن يكون عزيزاً، اما الذي يتركه وراء ظهره يعيش الذل، كيف؟
كل آية من آيات القرآن الكريم تدعوا الإنسان ليكون عزيزاً بتطبيقها، فبتركه لأي آية يفتقد العزة بمقدارها، هذا مضافاً إلى أن الله سبحانه يذلّ من لا يتخذ القرآن عصمته، أوليست العزة عند الله جميعاً وهو يمنحها من يشاء؟ثم يبين ربنا سبحانه حكمته وتجلياتها في الآيات التالية والتي سنتحدث عنها في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.