الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

39/07/10

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: مسائل 16 الى 18 / الملحقات

 

تحدثنا سابقاً عن مسألة تعدد العاملين، ولكن اليوم نتحدث عن جانبٍ آخر منها، ولابد له من تقدمة:

قال الفقهاء في باب الشركة بعدم جواز شركة الأبدان، بمعنى أن أكثر من شخص يعملون عملاً ثم يقسمون الأموال بينهم من دون تعيين حصة كلٍ بحسب عمله، ونحن قلنا بعدم المانع إن كان توافق بينهما وكونها شراكة عرفية مع عدم وجود الغرر.

ولكن بناءاً على عدم جوازها، فالسؤال يأتي: إن كانت المضاربة بين مالك وعاملين، فأحدهما عمل ولم يعمل الآخر، وكانت المضاربة واحدة، فلم تكن مضاربتين منفصلتين، ألا تكون هذه المضاربة من شراكة الأبدان التي عمل فيها أحدهما دون الآخر، وحينئذ فالسبب الذي دعا الفقهاء إلى تحريم شراكة الأبدان موجودٌ هنا أيضاً، فلابد أن نقول بعدم الجواز هنا ايضاً؟

أجاب السيد اليزدي قدس سره، عن ذلك بكون العقد هنا مضاربة لا شراكة، ولا يسحب حكم أحدهما إلى الثاني، ويبدو أنه يشبه شخصٌ يستأجر رجلان فيقاول معهما على عملٍ واحد، فيقوم أحد الأجيرين بأغلب العمل والآخر ببعضه مع تساوي الأجرة عليهما، حيث لم يحرم الفقهاء ذلك، ولكن لنا في جواب السيد نظر، فلماذا حرمتم أنتم شركة الأبدان؟ هل لنصٍ شرعي أم لغيره، فإن كان لنصٍ فلا تعميم، أما إذا كان للغرر فالغرر متحققٌ هنا أيضاً.

فإشكال المستشكل ليس من جهة الشراكة في المضاربة، بل لجهة الإشتراك في العلة، والأفضل أن نقول: أن الغرر غررٌ، ولكن بعضه يغتفر، فلا يغتفر الغرر حين ينتهي إلى الصراع والنزاع، أما مع القبول وعدم التنازع فلا يبطل العقد.

قال السيد اليزدي قدس سره: "بل لو عمل أحدهما وربح ولم يشرع الآخر بعد في العمل فانفسخت المضاربة يكون الآخر شريكا وإن لم يصدر منه عمل لأنه مقتضى الاشتراك في المعاملة ولا يعد‌ ‌هذا من شركة الأعمال (أي شركة الأبدان) كما قد يقال فهو نظير ما إذا آجرا نفسهما لعمل بالشركة فهو داخل في عنوان المضاربة لا الشركة كما أن النظير داخل في عنوان الإجارة"[1] ، فلنقل بالجواز في الشركة أيضاً.

 

الصفقات بالنسيئة

ترتبط المسألة الأخرى بالمعاملة بالنسيئة، حيث يجوز للعامل أن يعمل بالنسيئة بأذنٍ من المالك صريحاً كان أو ضمنياً، فيقوم بالإتجار معتمداً على الصكوك – كما هو المتداول في الأسواق اليوم - مثلاً، ولكن إن إشترى العامل شيئاً بالنسيئة فتلفت الأموال التي إعتمد عليها كما لو تلف المال عند البنك لسببٍ أو آخر، فمن يضمن المال؟

الجواب، المالك هو الضامن، لأنا قلنا بأن الربح بينهما والخسران على المالك، وللدائن أن يرجع على أيهما شاء، فإذا رجع إلى العامل كان للعامل الرجوع إلى المالك، لأن قرار الضمان على المالك لا العامل.

نعم؛ لو لم يكن هناك إذنٌ صريح من قبل المالك، ولا عرفٌ سائدٌ إعتمداه يقتضي التعامل بالنسيئة، فالضمان على العامل، قال السيد اليزدي قدس سره:"إذا أذن المالك للعامل في البيع والشراء نسيئة ‌فاشترى نسيئة وباع كذلك فهلك المال فالدين في ذمة المالك وللديّان إذا علم بالحال أو تبين له بعد ذلك الرجوع على كل منهما فإن رجع على العامل وأخذ منه رجع هو على المالك، ودعوى أنه مع العلم من الأول ليس له الرجوع على العامل لعلمه بعدم اشتغال ذمته، مدفوعة بأن مقتضى المعاملة ذلك (فالمتعامل مع الناس هو العامل) خصوصاً في المضاربة وسيما إذا علم أنه عامل يشتري للغير ولكن لم يعرف ذلك الغير أنه من هو ومن أي بلد ولو لم يتبين للديان أن الشراء للغير يتعين له الرجوع على العامل في الظاهر ويرجع هو على المالك"[2] .

ولكن؛ بعض الأحيان ليس العامل سوى موظف، فيمكنه –والحال هذه- أن يتهرب من الضمان، كما لو تعامل أحدٌ مع موظف في البنك، فتعامله هنا هو مع البنك عبر الموظف، فإذا إستقال الموظف فلا يرجع إلا على البنك، ولكن هذا لا يكون في المضاربة عادةً إلا إذا كانت حصة العامل في الربح قليلة جداً تجعله مجرد موظف.

ولكن غالب الحال أن العامل مسؤولٌ عن تعاملاته، فمع عدم التبين يرجع الدائن إليه، ويرجع هو ثمّ إلى المالك.

 

كراهية المضاربة مع الذمي

الآيات القرآنية المحكمات يجب جعلها محوراً لبحوثنا، ومن ثم نحيل المسائل التفصيلية والتي تسمى بلغة القرآن بالـ" متشابهة" إلى المحكمات، أما الآيات التي نستفيد منها في هذا المجال:

قوله سبحانه في سورة الممتحنة: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُم﴾‌[3] فالسبب في حرمة إتخاذ عدو الله ولياً مذكورٌ في الآية، ولكن بعدئذٍ وفي الآية الثامنة من السورة يقول الله تعالى: ﴿لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطين‌﴾[4] .

فالمحور هو القتال على الدين، فإن لم يكن هناك قتالٌ فيه ولم يكن قد أخرجوا المسلمين من ديارهم، فإن الله لا ينهى عن البر إليهم، كما في البر إلى يتيم الذمي وكذلك إعطاء حقهم إليهم، بل المنع هو عن البر بالمقاتلين، قال الله سبحانه: ﴿إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى‌ إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُون‌﴾[5] .

وهذه الآية هي من الأصول التي نحتاجها اليوم في تعاملات الناس بين بعضهم البعض، وعدم المعرفة بهذه الآيات جعل البعض يحارب كل شخصٍ لا يتوافق معه.

ولكن؛ مع ذلك نحن نحتاج إلى أن نأخذ عند المضاربة القيم بعين الإعتبار ونستفيد هذه القيم من الروايات الواردة في مثل أبواب العِشرة وكتاب المعيشة في الكافي، أولها: أن نشرك في أمرنا الأقرب إلينا ديناً ورحماً وموقعاً كالجار، وهذه قيمةٌ واضحة يعمل بها جميع الناس في كل مكان.

وبعد ذلك هناك بعض القيم تتكاسر، بمعنى وجوب تفاعلها مع بعضها البعض، وندرسها ونخرج بخلاصة نعمل وفقها.

مثلاً: رجلٌ من أهل بلدتي مؤمنٌ ومتدين ولكن لا خبرة له بالتجارة لا من قريب ولا من بعيد، فلا يعطى له المال لأنه يسبب تلفه، ولكن قد يكون هناك أمينٌ لا يخسرني الأموال فهو الذي يتم التعامل معه.

ولكن بعض الأحيان هناك لحاظات أخرى في البين، كما لو أراد المالك بمضاربة الذمي تأليف قلبه إلى الحق، فيتعامل معهم.

وفي المقابل إذا كان في المضاربة معهم ودخولهم في البلد ضررٌ على المسلمين – كما هو حال بعض البلدان اليوم- فلا يضاربهم.

وعموماً ينبغي أن تلحظ كل هذه القيم وتدرس في المقام، وإذا وردت رواية منعت من المضاربة مع الذمي فيجب أن نحملها على حالةٍ معينة وفقاً لقيمة معينة.

فالأساس أن يعيش الإنسان المؤمن مع القيم وهي الحكمة التي جاء بها الإسلام وعلّم الناس الحكمة، أما الروايات في المقام:

ففي الباب رواية مجملة يمكن تفسيرها بالمضاربة، ولكن في باب المزارعة لنا أكثر من رواية تدل على جواز التعامل مع العلوج (وهم الكفار)، وفي رواية عن شبه المضاربة أن إسماعيل إبن الإمام الصادق عليه السلام سأل الإمام عليه السلام عن التعامل مع شخصٍ فذكر الإمام أنه رجلٌ فاسق، ولكن إسماعيل حيث لم ينهه الإمام صريحاً تعامل معه، وبالفعل خسر الأموال، فعاتبه الإمام عليه السلام[6] .

فلابد من جمع الروايات التي جوّزت من جهة، والرويات التي نهت مثل نهي الإمام الصادق عليه السلام المعاملة مع شارب الخمر، ليستفاد منها الحكم، على أن الذمي قد لا يكون مؤتمناً خصوصاً في السابق حيث كان يغلب عليهم أخذ الأموال والهروب بها إلى دار الكفر، وربما يتعامل الذمي في الأموال بالحرام كالإتجار بالخمر ولحم الخنزير وما أشبه، وربما يكون سبباً في إضعاف المسلمين، ففي كل هذه الصور لا يضارب الذمي.

قال السيد اليزدي قدس سره: "يكره المضاربة مع الذمي خصوصا إذا كان هو العامل ‌لقوله عليه السلام: لا ينبغي للرجل المسلم أن يشارك الذمي ولا يبضعه بضاعة ولا يودعه وديعة ولا يصافيه المودة‌ وقوله عليه السلام: إن أمير المؤمنين عليه السلام كره مشاركة اليهودي والنصراني والمجوسي إلا أن تكون تجارة حاضرة لا يغيب عنها المسلم‌ (أي أن يكون المسلم مشرفاً) ويمكن أن يستفاد من هذا الخبر كراهة مضاربة من لا يؤمن منه في معاملاته من الاحتراز عن الحرام"[7] .

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.


[1] العروة الوثقى-جماعة المدرسين، السيد محمدكاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص267.
[2] العروة الوثقى-جماعة المدرسين، السيد محمدكاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص267.
[3] الممتحنة/السورة60، الآية1.
[4] الممتحنة/السورة60، الآية8.
[5] الممتحنة/السورة60، الآية9.
[6] نص الرواية كما في الكافي الشريف: ج5، ص299: عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ حَرِيزٍ قَالَ: كَانَتْ لِإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع دَنَانِيرُ وَ أَرَادَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ إِسْمَاعِيلُ يَا أَبَتِ إِنَّ فُلَاناً يُرِيدُ الْخُرُوجَ إِلَى الْيَمَنِ وَ عِنْدِي كَذَا وَ كَذَا دِينَاراً فَتَرَى أَنْ أَدْفَعَهَا إِلَيْهِ يَبْتَاعُ لِي بِهَا بِضَاعَةً مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع: "يَا بُنَيَّ أَ مَا بَلَغَكَ أَنَّهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ"، فَقَالَ إِسْمَاعِيلُ هَكَذَا يَقُولُ النَّاسُ فَقَالَ: "يَا بُنَيَّ لَا تَفْعَلْ"، فَعَصَى إِسْمَاعِيلُ أَبَاهُ وَ دَفَعَ إِلَيْهِ دَنَانِيرَهُ فَاسْتَهْلَكَهَا وَلَمْ يَأْتِهِ بِشَيْ‌ءٍ مِنْهَا فَخَرَجَ إِسْمَاعِيلُ وَ قُضِيَ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع حَجَّ وَ حَجَّ إِسْمَاعِيلُ تِلْكَ السَّنَةَ فَجَعَلَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَ يَقُولُ اللَّهُمَّ أْجُرْنِي وَ أَخْلِفْ عَلَيَّ فَلَحِقَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع فَهَمَزَهُ بِيَدِهِ مِنْ خَلْفِهِ فَقَالَ لَهُ: "مَهْ يَا بُنَيَّ فَلَا وَ اللَّهِ مَا لَكَ عَلَى اللَّهِ [هَذَا] حُجَّةٌ وَ لَا لَكَ أَنْ يَأْجُرَكَ وَ لَا يُخْلِفَ عَلَيْكَ وَ قَدْ بَلَغَكَ أَنَّهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ فَائْتَمَنْتَهُ"، فَقَالَ إِسْمَاعِيلُ يَا أَبَتِ إِنِّي لَمْ أَرَهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ إِنَّمَا سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ فَقَالَ: "يَا بُنَيَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ- يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ يُصَدِّقُ اللَّهَ وَ يُصَدِّقُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَإِذَا شَهِدَ عِنْدَكَ الْمُؤْمِنُونَ فَصَدِّقْهُمْ وَ لَا تَأْتَمِنْ شَارِبَ الْخَمْرِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ‌: فِي كِتَابِهِ: وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ فَأَيُّ سَفِيهٍ أَسْفَهُ مِنْ شَارِبِ الْخَمْرِ إِنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ لَا يُزَوَّجُ إِذَا خَطَبَ وَ لَا يُشَفَّعُ إِذَا شَفَعَ وَ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى أَمَانَةٍ فَمَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَى أَمَانَةٍ فَاسْتَهْلَكَهَا لَمْ يَكُنْ لِلَّذِي ائْتَمَنَهُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَأْجُرَهُ وَ لَا يُخْلِفَ عَلَيْهِ".
[7] العروة الوثقى-جماعة المدرسين، السيد محمدكاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص268.