الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي
بحث الفقه
39/07/06
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: المسائل 10 الى 12 / الملحقات
في سياق الحديث عن المسائل الملحقة بباب المضاربة، ثمة مسألةٌ كثر الحوار فيها بين الفقهاء، ولابد أن نتحدث عن الوصية كتمهيد لها، فما هي الوصية؟
للوصية مفهومٌ عرفي واضح حيث تعني تحديد الإنسان وضعاً لما عليه له الولاية فيما يرتبط بما بعد وفاته، وهذا واضحٌ لا يحتاج إلى مزيد بيان، وقد أكد القرآن الكريم على الوصية في أكثر من مورد حيث قال سبحانه: ﴿فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَليمٌ حَليم﴾[1] .
ويوصي الإنسان لما له عليه الولاية، وهم الأولاد الصغار أو القصّر غير الصغار لمن له عليهم الولاية، كالسفيه أو المجنون وربما حتى من كان في غيبوبة متصلة بالصغر، أو بالتصرف في المال بمقدار الثلث الذي يحدده الموصي، أما الوصية بالإهتمام بالمسجد أو شبهه فهي وصية أخلاقية كالإيصاء بالتقوى.
ولكن السؤال هنا: هل يمكن أن يوصي الإنسان على أولاده الكبار أم لا؟ الظاهر عدم جواز ذلك، إذ ليست له عليهم ولاية في حياته فضلاً عن حالة الوفاة فلا معنى لهكذا وصية.
ومناسبة الحديث عن الوصية هي المسألة التالية:
يمكن للمرء إذا حضرته الوفاة أن يوصي بالمضاربة في أموال أبنائه الصغار، ويعين للموصي حصةً من الربح، وهذا ما لا إشكال فيه لولايته على الصغار، وأما الوصية بالتصرف في أموال الكبار، فقال بعضٌ بالجواز إنطلاقاً من روايةٍ سنذكرها، ولعدّهم المضاربة عقداً جائزاً يمكن للورثة الكبار فسخه إن لم يشاؤوا الإستمرار.
وفيه: إشكالٌ في أصل الولاية على أموال الراشدين أولاً، وثانياً قلنا بعدم جواز عقد المضاربة دوماً، نعم هو ما عليه المشهور، وخالفه البعض منهم السيد اليزدي قدس سره، حيث ذهب إلى إمكان لزوم عقد المضاربة بالشرط إما ضمنه أو ضمن عقدٍ لازمٍ آخر.
أما الروايات في المقام فبحاجة إلى مزيد من التأمل والدراية، حيث بعضها تبين عدم جواز المضاربة في أموال الأيتام وأن من قام بالمضاربة تكون الوضيعة عليه مع عدم إستحقاقه شيئاً من الربح – فكأنه عملٌ غير مشروع- وبعض الروايات وردت في الإيصاء وهي كما يلي:
عَنْ خَالِدِ بْنِ بُكَيْرٍ الطَّوِيلِ قَالَ: دَعَانِي أَبِي حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَقَالَ يَا بُنَيَّ اقْبِضْ مَالَ إِخْوَتِكَ الصِّغَارِ فَاعْمَلْ بِهِ وَ خُذْ نِصْفَ الرِّبْحِ وَ أَعْطِهِمُ النِّصْفَ وَ لَيْسَ عَلَيْكَ ضَمَانٌ فَقَدَّمَتْنِي أُمُّ وَلَدٍ لِأَبِي بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي إِلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَقَالَتْ لَهُ إِنَّ هَذَا يَأْكُلُ أَمْوَالَ وَلَدِي قَالَ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ مَا أَمَرَنِي بِهِ أَبِي فَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إِنْ كَانَ أَبُوكَ أَمَرَكَ بِالْبَاطِلِ لَمْ أُجِزْهُ ثُمَّ أَشْهَدَ عَلَيَّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إِنْ أَنَا حَرَّكْتُهُ فَأَنَا لَهُ ضَامِنٌ فَدَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع بَعْدُ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قِصَّتِي ثُمَّ قُلْتُ لَهُ مَا تَرَى فَقَالَ"أَمَّا قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَلَا أَسْتَطِيعُ رَدَّهُ وَ أَمَّا فِيمَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فَلَيْسَ عَلَيْكَ ضَمَان"[2] .
ولقول الإمام عليه السلام في الرواية وجهان:
أحدهما: عدم إرادة الإمام عليه السلام الدخول في صراعٍ مع قاضي الكوفة، وثانيهما: قيام شهودٍ على الرجل لا ينفعهم قول الإمام أو توسطه، ولكن بيّن له الحكم فيما بينه وبين الله عزوجل، وهو أنه لا ضمان عليه، مما يدل على الجواز.
ويظهر من الرواية كون الوصية على أموال الصغار وإن لم يرد فيها تصريح، ولكن من جهة مناسبة الحكم والموضوع، ومن هنا فما قيل بشمولها للكبار لا وجه له.
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ بِوُلْدِهِ وَ بِمَالٍ لَهُمْ وَ أَذِنَ لَهُ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ أَنْ يَعْمَلَ بِالْمَالِ وَ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ فِيمَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَهُمْ فَقَالَ: "لَا بَأْسَ بِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ أَبَاهُ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَ هُوَ حَيٌّ"[3] .
وفي هذه الرواية أيضاً إطلاقٌ من جهة الأولاد، يمكن أن يقال بشمولها للكبار أيضاً، ولكن مناسبة الحكم والموضوع وكون ولاية الأب على الصغار فقط ينفي هذا القول، وفي مقابل هذين النصين نصوص تدل على عدم جواز المضاربة:
عَنْ بَكْرِ بْنِ حَبِيبٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام رَجُلٌ دَفَعَ مَالَ يَتِيمٍ مُضَارَبَةً فَقَالَ: "إِنْ كَانَ رِبْحٌ فَلِلْيَتِيمِ وَ إِنْ كَانَ وَضِيعَةٌ فَالَّذِي أَعْطَى ضَامِنٌ"[4] .
عَنْ سَعِيدٍ السَّمَّانِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: "لَيْسَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ زَكَاةٌ إِلَّا أَنْ يُتَّجَرَ بِهِ، فَإِنِ اتُّجِرَ بِهِ فَالرِّبْحُ لِلْيَتِيمِ، فَإِنْ وُضِعَ فَعَلَى الَّذِي يَتَّجِرُ بِهِ"[5] .
وعنه عليه السلام: "لَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَتَّجِرَ بِمَالِ الْيَتِيمِ فَإِنْ فَعَلَ كَانَ ضَامِناً لِمَا نَقَصَ وَ كَانَ الرِّبْحُ لِلْيَتِيمِ"[6] .
وإحدى هذه الروايات موثقة، وتفيد جميعاً عدم جواز الإتجار بمال اليتيم إلا أن يضمن التاجر الخسران، ولا علاقة لها بالوصية ولكن إن قلنا بها فسيتم التعارض بينها وبين روايات الوصية، وإن أمكن حمل الأوليتين على تخصيص هذه لكونه أخص منها ولكن الظاهر يدل على التعارض لعدم إمكان العمل بمال اليتيم.
ولكن يمكن التوجيه بعدم العمل بهذه الروايات أولاً، وثانياً قد تتنافى مع قوله سبحانه: ﴿وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتيمِ إِلاَّ بِالَّتي هِيَ أَحْسَن﴾[7] ، فلو فرض أن تجميد أموال اليتامى قد يكون فيه خسران عليهم أوفي المال، فالأحسن هو الإتجار بها، ومن هنا فالآية تكون هي المحكمة والروايات متشابهة.
مضافاً إلى عمل الفقهاء بالروايات الأولى والتي يظهر منها كونها محكمة الدلالة، ويمكن الجمع بين الطائفتين بأنه فيما إذا كان هناك إحتمالٌ للضرر بدون ضمانه، ويكون بغير التي هي أحسن فلا يجوز الإتجار بها وإلا جاز.
وأما بالنسبة لأموال الراشدين فذهب صاحب العروة إلى جواز عمل الوصي بها، ولا نص يدل على العمل بأموالهم، ولا دلالة واضحة على أن حكم الإيصاء بالمضاربة يختلف عن سائر أحكام الوصاية، والحال أن ولاية الأب تنتهي على غير القاصرين في حياته قبل وفاته، وأما القول بالجواز لإمكان الفسخ، فهذا قد يكون من باب الفضولي وهو خارجٌ عن النزاع، فالعمومات والأصول تنفي ذلك، ومن هنا خالف أغلب الشراح والمعلقين السيد اليزدي قدس سره فيما ذهب إليه.
تلف المال بيد العامل بعد إنتهاء العمل
قال السيد اليزدي قدس سره: "إذا تلف المال في يد العامل بعد موت المالك من غير تقصير فالظاهر عدم ضمانه و كذا إذا تلف بعد انفساخها بوجه آخر"[8] .
لا إشكال في وجوب رد الأمانت وهو المستفاد من الآيات المباركة وهو مفاد قاعدة اليد أيضاً، ولكن إن قصد رد الأمانة فتلفت في الطريق فهل يضمنها؟
لا دليل على الضمان إذ اليد أمينة، فلا تضمن ما تلف بيدها، ولكن قول السيد قدس سره "الظاهر" يشعر بوجود وجه آخر يدل على الضمان، وكيف كان لو فسخ المال في طريق إيصال المال إلى المالك بعد إنتهاء المضاربة فليس بضامن، إذ ليس على الأمين سوى اليمين، يشمل العامل في المقام.
ومع الشك في المسألة فلابد من إستصحاب أمانة اليد – كما عن المرجع السيد الحكيم قدس سره- حيث يحكم ببقاء الأمانة.
تعدد مالكي المضاربة
إذا كانت المضاربة بين أكثر من مالك وعاملٍ واحد فهل تبطل المضاربة بفسخ أحد الملاك؟
من الواضح أن العقود تختلف باختلاف القصود، فقد يكون العقد واحداً لا يتجزأ فيبطل بفسخ البعض، وقد يكون عدة عقود ضمن عقد واحد فيبقى العقد في المتبقى مع خيار تبعض الصفقة، فالأفضل إحالة المسألة إلى العرف وقصد المتعاقدين، قال السيد قدس سره: "إذا كان رأس المال مشتركا بين اثنين فضاربا واحدا ثمَّ فسخ أحد الشريكين هل تبقى بالنسبة إلى حصة الآخر أو تنفسخ من الأصل وجهان أقربهما الانفساخ (لأن الظاهر انه عقد واحد) نعم لو كان مال كل منهما متميزا و كان العقد واحدا لا يبعد بقاء العقد بالنسبة إلى الآخر"[9] .
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.