الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

39/06/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: موت العامل4 وإشتراط التنجيز / الملحقات / كتاب المضاربة

 

تحدثنا عن الصورتين الأوليتين في حالة موت العامل، وبقيت الصورة الثالثة التي هي عدم العلم ببقاء شيء من مال المضاربة عنده الآن مع العلم السابق بوجود المال عنده، والمسألة فيها إختلاف كبير بين فقهائنا وعلماء الجمهور، ويبدو أن المسألة كانت موضع إبتلاء لتحدث الجميع عنها وبإسهاب، ونحن نبين رأينا أولاً ومن ثم نتعرض لبعض الآراء الأخرى:

قد يحصل تعارضٌ بين الأصل والظاهر في بعض الأحيان، وحينئذ على القاضي أن يحكم بالظاهر إن كان قوياً يورث الطمأنينة (العلم العرفي) أما مع عدم قوته فيقدم القاضي الأصل، وفي مسألتنا: لو كان العامل المتوفى تاجراً يشهد له الجميع بأمانته وصدقه، وهو معروفٌ بالعمل في أموال مجموعة من المالكين وضبطه لحساباته وكتابته لها جميعاً، فلم نعثر على إسم المالك المشكوك في وجود ماله في التركة، مع بعد عهد المضاربة بينهما – مع حالة العامل المعروفة من الضبط والدقة-، فالظاهر هنا يحكم برد العامل المال للمالك أو تلفه، بالرغم من أن الأصل (الإستصحاب) يقتضي بقاء المال في ذمته، وهنا يدرس القاضي وضع العامل وحالاته مع المالكين، فإذا أورث ذلك عنده علماً عرفياً بعدم إنشغال ذمة العامل قضى له، ومن ثم يؤيد هذا الظاهر أصالة صحة عمل المسلم، وأصالة عدم إنشغال ذمته، فبالرغم من أن الإستصحاب حاكمٌ على الأخير ولكن بأعتباره مؤيداً للظاهر يؤخذ به.

أما لو كان العكس، فالعامل فقير الحال ولا يعامل إلا مالكاً واحد وترك مالاً دون وصية، ومن جهة أخرى لم تمر مدة طويلة على مضاربته في المال، فهنا الأصل هو المقدم بإشتغال ذمة ورثته بالمال.

فلا يمكن أن نصدر في المسألة حكماً واحداً لكل الحالات، أما الفقهاء فقد إختلفت كلماتهم فبعضٌ قال بتحوله إلى إرث وبعض توقف في المسألة، وآخرون إستشكلوا، مما يدل على عدم وضوح المسألة بالرغم من هيمنتهم –قدس الله أسرارهم- على الأصول والقواعد.

 

إشتراط التنجيز في المضاربة

من البحوث التي يتطرق لها السيد قدس سره مسألة إشتراط التنجيز في العقد، حيث إشترطه الفقهاء في العقود والإيقاعات كافة، ولكن السؤال عن المستند لهذا الشرط، بعد أن لم نظفر بنصٍ يعتبره في أي عقد من العقود، فضلاً عن عدم ذكرهم له كشرطٍ في بعض العقود، فهل هو لعدم إعتباره أم لبداهة إعتباره، ومن ثم فهل هو مختص باللازم من العقود أم يعم الجائز منها أيضا؟

لكي نبلور المسألة لابد أن نقول: التنجيز ليس شرطاً مستقلاً عن ذات العقد المأمور بالوفاء به في الآية الشريفة، الأمر الذي يحملنا على دراسة العقد الذي يختلف عن الوعد كما يختلف عن المساومة السابقة على العقد.

كلمة العقد من العقدة، وذلك بسبب عقد إرادة بأخرى، فالعقد يكون أقوى ربطاً من الوعد، وأخف من العهد الذي يساويه أو يعلو عليه الميثاق، وكلها مراتب الذمة للإنسان، الناشئة من كلمته ومسؤوليته عنها، قال الله سبحانه: {وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ}[1] .

ومن جهة أخرى فعبارة التراضي الواردة في قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ}[2] ، الذي هو الرضا المتصل بالرضا الآخر أيضاً، وهو المتعلق بالإلتزام لا مطلق الرضا الدال على الحب في مقابل السخط، لإقترانه بالتجارة، فالتجارة إطارٌ والتراضي محتواه.

وأول من تعرض لهذا البيان هو الشهيد الأول في القواعد ونعم ما قال، حيث أشار إلى أن هذا هو دليل إشتراط التنجيز، حيث لا يتحقق الرضا بتعليقه، وكذا تنبه السيد البروجردي إلى ذلك وفصّل الحديث عنه، وربما أشار إلى ذلك إبن قدامة من الجمهور أيضاً.

فالتنجيز ليش شرطاً مستقلاً، بل هو بيانٌ لحقيقة العقد، ومن هنا، فإن وجد تعليقٌ لا يتنافى مع حقيقة العقد فهو صحيح، وكذا الإيقاع، فلو قالت إمرأةٌ لرجل أنها زوجته، فهو يقول لها: إن كنت زوجتي فإنتِ طالق، فقصده هنا غير معلق لإن التعليق للموضوع لا للقصد، وكذا قوله: إن كان اليوم يوم الإثنين بعتك.

وربما يصح العقد في مثل قوله: آجرتك الدار بعد شهر، حيث العقد تام الأركان، ولم يحدث الإختلاف إلا في زمن تحققه، وهكذا العقود المستحدثة مثل بيع الدار لأشهر محددة، حيث يبيع الدار على أربعة يملك كلٌ منهم الدار لثلاثة أشهر مثلاً.

فإن لم يكن لدينا إشكال في أصل تحقق العقد، بأن كان عقداً عرفياً حقيقياً، فلا يضره التعليق إن لم يعلّق القصد والرضا، ففي قوله: بعتك إن جاء الحجاج قد لا يكون عقداً بل مثل الوعد، وإلى ذلك يرجع بعض ما قاله الفقهاء في هذا المجال من الأدلة الأخرى:

فمنهم من قال ببطلان العقد غير المنجّز، لأن الأصل في العقود البطلان إلا ما علمنا بصحته، وما لم نعلمه فهو باطل، وفيه: أن الأصل في العقود هو الصحة ما شملته عموم الآية، لا البطلان.

ومنهم من قال بأنه عقدٌ لم نعهده، وفيه: أنه لا يكفي للمنع منه، فليعهدوا عقداً جديدا.

ومنهم من أدعى الإجماع وفيه: إشكال صغرىً وكبرى، فتحققه في هذه الأمور صعبٌ،مضافا إلى كونه دليلٌ لبي يؤخذ بالقدر المتقين منه فقط.

قال السيد قدس سره: "الثانية ذكروا من شروط المضاربة التنجيز‌و أنه لو علقها على أمر متوقع بطلت و كذا لو علقها على أمر حاصل إذا لم يعلم بحصوله نعم لو علق التصرف على أمر صح و إن كان متوقع الحصول (ضاربتك ولكن إنتظر حتى تتضح الأمور بعد ذاك إبدأ بالعمل، فهو شرطٌ من شروط العمل وبتعبير آخر هو شرط في المنشأ فيما ينبغي أن يكون عليه موضوع العقد) و لا دليل لهم على ذلك (على إشتراط التنجيز) إلا دعوى الإجماع (وهو دليل لبي فلا يؤخذ إلا بالقدر المتيقن منه) على أن أثر العقد لا بد أن ‌يكون حاصلا من حين صدوره و هو إن صح إنما يتم في التعليق على المتوقع حيث إن الأثر متأخر "[3] .

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.


[1] المائدة/السورة5، الآية89.
[2] النساء/السورة4، الآية29.
[3] العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص253، جماعة المدرسين.