الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

39/05/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: فسخ المضاربة أو إنفساخها 2 / أحكام المضاربة

الحديث في الأبواب الأخيرة من كتاب المضاربة يرتبط بالإستحقاقات بعد إنتهاء المضاربة وأنتفائها، فقد تنتهي المضاربة بالفسخ أو الإنفساخ أو نهاية المدة المجعولة لها أو بسبب الموت وجنون أحد الطرفين، فما هي استحقاقات النهاية؟

قلنا سابقاً بأن الفسخ قد يكون قبل أن يبداً العامل بالمضاربة، وقد يكون بعد نهاية العمل، وقد يكون في الأثناء، وفي كلٍ منها قد يكون الفسخ من جهة العامل أو المالك.

وقبل الحديث عن الفسخ في أثناء المضاربة لابد أن نورد بعض الملاحظات:

الأولى: حين نهى الإسلام على لسان نبيه صلى الله عليه وآله عن الغرر أو بيع الغرر، كان لحكمة عدم وقوع المنازعات بين الناس، إذ السلم الأهلي يعد أمراً أساسياً في الإسلام، وقد أحاطه الإسلام بسورٍ منيع من القوانين والأحكام ليعيش الناس في راحة، الأمر الذي لا نجده في أي دينٍ أو قانونٍ أو مبدأٍ آخر من التركيز على السلم الأهلي ليعيش الناس في وئامٍ ومحبة ويحسنون إلى بعضهم البعض.

ومن تلك الأحكام منع الإسلام التعاملات المسببة للنزاع، فلابد من وضع قوانين تمنع الصراعات قبل بروزها، ومنها الجهالة في المعاملات، حيث ذكر الفقهاء شروطاً في رفع الجهالة كأن تكون السلعة معروفة المقدار والقيمة ويكون موعد التسليم معلوماً وما أشبه، ولكن قد تتجدد بعض الأمور في بعض الأحيان، فمثلاً يلاحظ القاضي في معالجته للقضايا المرتبطة بالتجارة أن المتعاقدين لم يؤسسوا لتعاملاتهم أساساً واضحة يعتمدون عليه والعرف قد يكون غامضاً في هذا الأمر، فحينئذ يكون للولي الفقيه أن يفتي بالتدقيق في بعض النقاط وبضرورة تحديدها ضمن العقد لأنها مما يثير الخلاف تقييداً لهما بحدود التوضيح، ومن ذلك المسائل المبحوثة عندنا، لأن كل عقدٍ منتهٍ ترتبط به قوانين، فإنتهاء المضاربة لأي سببٍ كان يلزم منه إستحقاقات الطرفين وطريقة توزيعها.

الثانية: فيما يتربط بتوزيع الربح أو الخسارة في مال المضاربة، أو فيما يتعلق بتصفية أمور المضاربة بعد إنتهائها كإنضاض المال وطريق التصرف بالعروض، أو معالجة الإختلافات المرتبطة بالمضاربة كما لو إدعى أجنبيٌ مالاً في المضاربة فمن يجب أن يمثل أمام القضاء هل هو العامل أو المالك، ففي كل ذلك:

إن كانت هناك توافقات بينهما فهي المتبعة ومع عدم وجودها يكون العرف هو المتبع، ومع عدم العرف فلابد أن نرجع إلى قاعدة العدل التي أمر الله سبحانه بها، حيث على الحاكم الشرعي أن يستنفذ طاقته في تبيين العدالة، ويبدو أن هذه المسائل في هذا الإتجاه.

الثالثة: مما يتعلق بالعدالة، قال بعض الفقهاء بأن المتضرر في المضاربة إن كان مقدماً على الإضرار بنفسه فلا يحق له المطالبة بجبر الضرر، إذ عقد المضاربة من عقود المخاطرة، كما الجعالة التي لا يستحق العامل شيئاً مع تضرره لكونه مقدماً على الضرر.

ولكن هنا ملاحظة نوردها وندع تفصيلها لوقتٍ آخر وهي أن للخسارة والضرر المتوقعة حدود، فخسارة الربح أو بعض رأس المال قد تكون متوقعاً لا كل المال، فالمالك – مثلاً – لم يقدم على المضاربة مع إحتمال تلف جميع المال، فالضرر يحتسب بنسبة إقدامهما، ومن هنا فإن كان الضرر المترتب على العامل أزيد مما هو مقدمٌ عليه ففي إطلاق عدم رفعه إشكال، ويشابه ما نحن فيه الجهاد في سبيل الله، حيث بني الجهاد أساساً على الضرر والحرج والتضحية، بيد أنه قد يرتفع حكم الجهاد إن كان الضرر كبيراً بأزيد مما يتوقع، كما لو فرض إمتلاك العدو لأسلحة الدمار الشامل مع مقاتلة المسلمين بالأسلحة التقليدية، حيث يكون الضرر متجاوزاً الحدود المتسامح بها حتى في الجهاد، وكذا الحج الذي فيه نوعٌ من المشقة على المكلف، لو زادت المشقة حدها الطبيعي يشملها قاعدة نفي الحرج.

 

بيان السيد اليزدي قدس سره

في ثاني فروع هذه المسألة يناقش السيد اليزدي قدس سره حالة فسخ العامل للمضاربة في أثناء المعاملات، فهل يستحقان شيئاً؟

يقول: لا يستحقان شيئاً لإقدامهما على الإضرار بأنفسهما معاً، لأن المعاملة من عقود المخاطرة كما مرّ، قال السيد قدس سره: "الثانية إذا كان الفسخ من العامل في الأثناء قبل حصول الربح فلا أجرة له لما‌ ‌مضى من عمله و احتمال استحقاقه لقاعدة الاحترام لا وجه له أصلا (للإقدام أولاً، ولتضرر المالك مثله) و إن كان من المالك أو حصل الانفساخ القهري (بموت أو جنون أو إنتهاء المدة مع القول به) ففيه قولان أقواهما العدم أيضا (فلا يستحق العامل شيئاً من المال) بعد كونه هو المقدم على المعاملة الجائزة التي مقتضاها عدم استحقاق شي‌ء إلا الربح (وهذا الكلام صحيح، أما رأي العلامة الذي قال بالإستحقاق فيبدو أنه محمول على العرف السائد حينئذ بإعطاء العامل شيئاً) و لا ينفعه بعد ذلك كون إقدامه من حيث البناء على الاستمرار"[1] . بعد علمه بكون العقد جائزاً ولم يشترط الإستمرار ضمن العقد.

أما عن الفرع الآخر المرتبط بالمقام، إذا تم الفسخ بعد السفر مع صرف العامل شيئاً من رأس المال فقد قال السيد قدس سره: "الثالثة لو كان الفسخ من العامل بعد السفر بإذن المالك و صرف جملة من رأس المال في نفقته فهل للمالك تضمينه مطلقا أو إذا كان لا لعذر منه وجهان أقواهما العدم لما ذكر من جواز المعاملة و جواز الفسخ في كل وقت فالمالك هو المقدم على ضرر نفسه"[2] .

نقول: إن كان الأمر يدعو إلى الريبة بأن كانت الخسارة أزيد من القدر المتوقع، كما لو خسر نصف أمواله في أسفار العامل، فلابد أن يحاكم العامل فيحدد القضاء العدل في المقام، لأن قاعدتي لا ضرر ولا يتوى حق امرء مسلم تشمل المتضرر، فعدم تغريم العامل مطلقاً مشكلٌ مع إتفاقنا على عدم تغريمه فيما إذا كانت المصاريف طبيعية.

اما المسألة الرابعة وهي ذات أهمية وترتبط بحالة وجود ربح في البضاعة كما فلو تاجر العامل بالمال وإشترى عروضاً معينة منتظراً حلول موسم البيع الذي يربح فيه ففسخ المالك قبل البيع، وأدعى العامل وجود ربحه في البضاعة، فهل له الحق في ذلك ؟

قيل: لا حق له، لأن الربح المحتمل يختلف عن الربح الموجود، والعامل يملك الثاني لا الأول، خصوصاً مع عدم نضوض المال.

وقيل: مادام الربح موجوداً في البضاعة فهو ربح وإن لم ينض، فيكون العامل شريكاً فيها عقلاً وعرفاً، كما لو إشترى سجاداً وإرتفعت قيمته حقيقةً بسبب التجارة، فالربح متحققٌ في المضاربة وإن لم يظهر بسبب عدم البيع.

وقد إختلف الفقهاء في هذه المسألة، فالسيد اليزدي قدس سره يعتبر المدار في الملك هو الربح الظاهر ومع عدم ظهوره لا حق له، ونحن معه في ذلك، إلا أنه إن كان الربح متحققاً حتى وإن لم يظهر[3] وفي هذه المسألة إختلف الفقهاء، وصاحب العروة يرى أن المدار هو مدار الربح الظاهر، فمادامه لم يظهر فلا حق للعامل، ونحن نقول هذا صحيح، ولكن إن كان الربح متحققاً فهو يملكه وإن لم يظهر، قال السيد قدس سره: "الرابعة لو حصل الفسخ أو الانفساخ قبل حصول الربح و بالمال عروض لا يجوز للعامل التصرف فيه بدون إذن المالك ببيع و نحوه (لأنتهاء الإذن بإنتهاء المضاربة) و إن احتمل تحقق الربح بهذا البيع بل و إن وجد زبون يمكن أن يزيد في الثمن فيحصل الربح نعم لو كان هناك زبون بأن على الشراء بأزيد من قيمته لا يبعد جواز إجبار المالك على بيعه منه لأنه في قوة وجود الربح فعلا (ويبدو أن السيد تلطف في المسالة بعد القول بعدم الجواز، ولكنه يستشكل بعدئذ بقوله:) و لكنه مشكل مع ذلك لأن المناط كون الشي‌ء في حد نفسه زائد القيمة و المفروض عدمه"[4] .

ومثل المقام مسألة الشركة حيث يمنع الشريك من بيع الشريك العين مع وجود حقٍ وربحٍ له فيها، فحينئذ يمكن حل النزاع بالرجوع إلى الحاكم أو عدول المؤمنين للحفاظ على حق كلٍ منهما من خلال قانون العدالة، ويكون ذلك إما عبر التصالح أو التصالح القهري، أو من خلال تحديد القاضي لكيفية التوفيق بين الحقين، والله العالم.


[1] -العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص221، ط جماعة المدرسين.
[2] -العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص221، -ط جماعة المدرسين.
[3] فرَق السيد المرجع دام ظله بين التحقق والظهور، فأعتبر التحقق هو المدار في ملك الربح حتى مع عدم ظهوره. [المقرر].
[4] -العروة الوثقى، المدرسين، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص221، -ط جماعة.