الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

39/05/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: جبران رأس المال بالربح 2 / أحكام المضاربة

تشعب البحث في مسألة جبران تلف رأس المال بالربح، وخلاصته أن من إستند على جبر الربح للخسارة إعتمد ظاهراً على الدليل الذي تصيدناه من الكلمات التي إشتهرت عند علمائنا وعند جمهور علماء المذاهب، وهو أن الربح لا يسمى ربحاً مع وجود النقص في رأس المال، سواءاً كان النقص الحاصل بسبب الخسران في التجارة أو التلف أو الغصب أو غيره.

وبذلك ينبغي أن نبحث قليلاً عن هذا الدليل ونبين ما يلي:

أولاً: تبنّي جمهور العامة ومشهور الخاصة لذلك يدل على أن العرف كان سائداً على ذلك، خصوصاً مع ملاحظة كون العلماء أهل خبرة ومحل رجوع للناس، حيث لم تكن الدولة مهتمة بمثل هذه الأمور لإنشغالها بالجانب العسكري والأمني، تاركةً المسائل الإقتصادية، فلم يكن للناس مرجع سوى العلماء.

ثانياً: القول بعدم صدق الربح إلا بعد جبران التلف يعني أن العقد تمّ على أساس هذه الفكرة، وبالتالي إعتماد الطرفان عليها، بأن تكون المضاربة عبارة عن عمل في المال ثم ملاحظة ما زاد عن رأس المال فيقتسم بينهما بالحصة المتفق عليها، فإذا كان الأمر كذلك ورضي الطرفان، ثم تلف ثلاثة أرباع المال وعمل العامل بالربع المتبقي، فليس له أن يأخذ من الربح شيئاً حتى يجبر كل رأس المال.

ولكنّا نشكك في كون معنى الجبر مأخوذاً في الربح، وعند الشك نرجع إلى العرف السائد أو إلى المتعاقدين عما بنيا عليه عقدهما، وحيث كان مرجع دليلهم الأقوى في المقام إلى العرف، أمكن أن يكون العرف في زمانهم على ذلك ويمكن أن يتغيّر من وقتٍ لآخر، ومن هنا فنحن نقول بأن معنى الربح [1] يفهم من خلال العرف أو المتعاقدين، وبذا نتخذ حلاً وسطاً بين من أصر على عدم جبران التلف من الربح، وبين من أصرّ على العكس، فنحن لا نرى الحاجة إلى الإصرار مع ما قلنا من الرجوع إلى العرف أو الطرفين، فهل الربح عندهم ما يفضل عن كل المال، أو ما يفضل بعدما يرجع رأس المال سواء خسر المال خلال التجارة أو تلف خارجها، وهذا مسلم وهو مشهور الفقهاء، ولكن يبدو أن التعبير بجبران الخسران من الربح أربك المسألة بعض الشيء مع أن معناه عدم تسمية الربح ربحاً إلا بعد إرجاع رأس المال إلى سابق وضعه.

 

أما الأدلة الأخرى التي سيقت لهذا الرأي فهي:

الأول: ما استدل به الجمهور من النبوي الشريف: "مثل المؤمن مثل التاجر لا يسلم له ربحه حتى يسلم له رأس ماله، كذلك المؤمن لا تسلم له نوافله حتى تسلم له عزائمه"[2] والإستدلال بمثل هذه النصوص كما ترى.

الثاني: ما روي عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُعْطِي الْمَالَ مُضَارَبَةً وَ يَنْهَى أَنْ يَخْرُجَ بِهِ فَخَرَجَ قَالَ: "يُضَمَّنُ الْمَالَ وَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا"[3] .

وهي أجنبية عن المقام أيضاً لأنها في مقام وجود الشرط وتعديه من قبل العامل، فيكون ضامناً للمال سواء ظهر ربحٌ أم لم يظهر.

الثالث: الإجماع، وفيه اولاً: عدم ثبوته الإجماع في المسائل الفرعية، فدون إثباته ـ في مثل هذه المسائل ـ خرط القتاد.

ثانياً: أنه مستندٌ[4] على الأدلة السابقة ويكفي ذلك إسقاطاً لحجيته لعدم كونه كاشفاً عن رأي المعصوم.

ثالثاً: وجود من خالف هذا الحكم كافٍ لنقضه، كالمحقق الأردبيلي والمحقق الثاني.

وقد ساق العامة بعض الأدلة الأخرى التي هي بمثابة إستحسانات ليس إلا.

 

تلف جزءٍ من المال

فيما لو كان المال يكفي لتجارةٍ معينة ثم تلف نصفه أو نقصت قيمته بسببٍ من الأسباب، فهل تبقى المضاربة على حالها أم تبطل؟

قيل: لو كانت المضاربة على مليون ولا يكفي نصفه للتجارة المعينة فقد إنتفت المضاربة، وقال البعض بأن الجزء داخلٌ في الكل وبتلف البعض تستمر المضاربة في الجزء الباقي.

ويبدو لي أن الحكم في هذه القضية من شأن العرف، فإن كان العرف يرى أن المليون بكليته موضوعاً للمضاربة فمع تلف نصفه زوالٌ لموضوع المضاربة، أما إذا كان يعتبره على نحو الأجزاء ولم يعتبر تلف النصف زوالاً للموضوع فيستمر العقد.

 

بيان صاحب العروة:

ذكر السيد اليزدي قدس سره في العروة مجموعة من التشقيقات لهذه المسألة، التي هي آراء لعلماء الجمهور فذكرها لبيان رأيه فيها فقال: "وأما التلف فإما أن يكون بعد الدوران في التجارة أو بعد الشروع فيها أو قبله (والفرق بينهما أن الدوران جعل كل المال والشروع هو البدء مع عدم جعل جميعه في العمل) ثمَّ إما أن يكون التالف البعض أو الكل و أيضا إما أن يكون بآفة من الله سماوية أو أرضيه أو بإتلاف المالك (إذا أتلف المالك فلا مسؤول إلا هو) أو العامل (وإذا أتلف العامل فهو ضامنٌ للمال ولما كان ضامناً ينزل المال منزلة الموجود) أو الأجنبي على وجه الضمان فإن كان بعد الدوران في التجارة فالظاهر جبره بالربح ولو كان لاحقا مطلقاً سواء كان التالف البعض أو الكل كان التلف بآفة أو بإتلاف ضامن من العامل أو الأجنبي (ففي كل هذه الحالات يجبر بالربح، ومراده أنه لا ربح إلا بعد إعادة رأس المال، أما ما قيل بأن المال لو تلف على نحوٍ مضمون أو ممكن الإرجاع فينزّل منزلة الموجود فلا وجه له، ولذا قال السيد:) و دعوى أن مع الضمان كأنه لم يتلف لأنه في ذمة الضامن كما ترى، نعم؛ لو أخذ العوض يكون من جملة المال (فإذا استرجع العامل المال أو رده الغاصب، فهل المضاربة باقية أم لا؟ قال البعض ببطلان المضاربة السابقة والإحتياج إلى عقد جديد، وقال البعض بإستمرارها، والحق أن الأمر مختلف بحسب العقد فإن كان مشروطاً ضمناً أو صريحاً ببقاء المال فتنتهي المضاربة بزواله وتلفه وإلا فتبقى) بل الأقوى ذلك إذا كان بعد الشروع في التجارة وإن كان التالف الكل كما إذا اشترى في الذمة و تلف المال قبل دفعه إلى البائع فأداه المالك أو ‌باع العامل المبيع و ربح فأدى"[5] .

وهذه المسألة تعرضنا لها في البحث السابق، من أن العامل لو تاجر بذمته مع تلف المال فحصل على الربح، فهل يعد ذلك من مال المالك وعليه إرجاع رأس المال، أم أن ذلك كان من ماله هو؟

الأقوى عند السيد أن المضاربة باقية ويرجع إلى المالك رأس المال وإن كان التلف كلياً.

نحن نقول: بصحة قول السيد قدس سره فيما إذا بقيت المضاربة على حالها وقلنا بعدم تحقق الربح إلا بعد رجوع رأس المال، أما إذا أنهى العرف المضاربة بسبب تلف جميع المال، فلا وجه لما قيل. ومن هنا فما قاله السيد البروجردي تعليقته بالإستشكال ببقاء المضاربة السابقة مع أداء المالك[6] صحيحٌ.

وهناك رأيٌ ثالثٌ في المقام بأن العامل لو عمل بذمته معتمداً على إعتباره الذي حصل عليه بسبب مال المالك، أو إعطاء المالك صكوكاً له، فتكون المضاربة السابقة باقية، والله العالم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

 


[1] وما يرتبط به من لوازم [المقرر].
[2] العقود الشرعية في المعاملات المالية الصرفية: ص108.
[3] الكافي-ط دارالحديث، الشيخ الكليني، ج10، ص305.
[4] أو محتمل الإستناد على الأقل. [ المقرر].
[5] العروة الوثقى-ط جماعة المدرسين، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص203.
[6] العروة الوثقى فيما تعم به البلوى(المحشى)، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص206.