الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

39/05/02

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: عدم إذن المالك بمضاربة العامل مع آخر / أحكام المضاربة

 

"إذا ضارب العامل غيره مع عدم الإذن من المالك ‌فإن أجاز المالك ذلك كان الحكم كما في الإذن السابق في الصور المتقدمة فيلحق كلا حكمه و إن لم يجز بطلت المضاربة الثانية و حينئذ فإن كان العامل الثاني عمل و حصل الربح فما قرر للمالك في المضاربة الأولى..".[1]

 

مضى الحديث عن صور تسلسل المضاربة، وقلنا بجوازها جميعاً مع إذن المالك أو تعارف المجتمع عليه بإعتباره إذناً ضمنياً، إلا أن البعض ذهب إلى عدم حصول العامل الأول على حصة من الربح إن كان العامل الثاني في طوله وهو الذي يقوم بالعمل، لأن العامل الأول لم يقم بشيء سوى تحويل المضاربة إلى غيره، ومفاد رواية نوادر أحمد بن عيسى[2] عدم جواز إعطاء المضارب العمل لعاملٍ آخر بأقل من حصته، ولكنها تكون في الحالات العادية، أما إذا كان للعامل الأول صفة الإشراف والإدارة وبالتالي كان هو المسؤول أمام المالك، فإنه يستحق حصةً من الربح.

نعم؛ لو لم يكن له أي دورٍ في العمل كما لو كان الأول وجيهاً أو قريباً من صاحب المال فيعيش على هكذا تعاملات ففيه إشكال للنص، ولكونه أكلاً للمال بالباطل، وسياق الآية يدل على النهي عن الوضع الذي كان ولايزال في المجتمعات بوجود سماسرة يأكلون أموال الآخرين بإعتبارهم وجهاء عند الحكام، حيث قال الله سبحانه: ﴿وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَريقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُون‌﴾[3] .

 

عدم إذن المالك

كل ذلك فيما لو أذن المالك صريحاً أو ضمنياً، ولكن إن لم يجز المالك لا بلفظٍ صريح ولا إعتماداً على عرفٍ سائد، بل منعه من الإستعانة بغيره، فلو إستعمل العامل عاملاً آخر وربحت المضاربة كيف يكون تقسيم الربح حينئذ؟

إختلفت كلمات الفقهاء في المسألة، حتى تجاوزت العشرة أقوال عند العامة، كما أنها تعدت ذلك عند الخاصة، وقبل التعرض لما ذكره الفقهاء وما اختاره السيد اليزدي قدس سره نبين ما نختاره.

يبدو لنا أن الرأي الأصوب هو ما ذهب إليه المحقق الحلي في الشرائع[4] وتبعه المحقق النجفي في الجواهر[5] وهو أخذ المالك لحصته المقررة في العقد، لصحة المضاربة الأولى، وأخذ العامل الأول لحصته لفساد المعاملة الثانية مع تحمله أجرة العامل الثاني.

وهو رأيٌ حصيف لإخذ كلٍ ما له من الحق، فالمالك يأخذ لما أتفق عليه، والعامل الأول يأخذ لبطلان المعاملة الثانية، أما العامل الثاني فله أجرة عمله لإقدامه على معاملة فاسدة مع علمه بعدم الإذن.

أما الأقوال الأخرى فلنا بعض النقاش في مباني أصحابها:

أولاً: الإختلاف الكبير في الأقوال يدل على إختلاف الفرضيات التي بنيت عليها الفتوى، وهي ما ليس للفقيه شأن بها إنما هي شأن القاضي ليبت في كل مسألة بحسبها، وبهذا فلا حاجة للخوض في التفاصيل والتفرعات مثل ما لو إشترى العامل هل إشترى على العين أم بالذمة وهل قصد ذمة المالك أم ذمته وما أشبه.

ثانيا: المبنى في تبعية الربح يسهم في الإختلاف في المسألة، فهل الربح تابعٌ للمال فقط، أم هو تابع للمال مع العمل؟

فإن قلنا بالأول وبالتالي عود الربح كله للمالك، فإنه سيكون مخالفةً لمبنى المضاربة، إذ هي تكاملٌ بين المال والعمل، ويسري هذا البحث في باب الغصب وأبواب العقود المختلفة مع بطلانها، ففي الغصب مثلاً – وهو أسوء الإحتمالات – لو قام الغاصب بتشييد بنيان على الأرض المغصوبة، ثم باع الجميع، فكيف ستقسم الأموال؟

قيل: لأنه غاصب فيؤخذ بأشق الأحوال، فتكون الأموال كلها للمالك، وهذا الرأي متبعٌ في القوانين الحديثة أيضاً حيث لم يعتبروا الجهد في البناء شيءً، بل جعلوا الأصل هو الأرض دون ما عليها، والحال أن القرآن الكريم يأمر بإعطاء كل ذي حقٍ حقه، حيث قال سبحانه: ﴿وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُم‌﴾[6] ، وفي الحديث عن العدالة يأمر الرب بها في أخفى المصاديق فضلاً عن غيرها حيث قال جل من قائل: ﴿وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى‌ أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى‌﴾[7] .

أما المقصود بأشد الحالات فهو الشدة في حدود الحق، فالدية من العامد تؤخذ في أقصر الفترات، لا أن يظلم، لأنه محرمٌ حتى على الغاصب والمجرم.

ومثل ذلك فيما لو زرعت الأرض المغصوبة، فهل يكون الزرع كله تابعاً لرقبة الأرض أم يعود أيضاً للبذور والجهود المبذولة، وكذا فيما نحن فيه لابد من القول بتقسيم الربح على مجموع المال والعمل.

نعم؛ قلنا بأن العامل الأول لو لم يكن له دورٌ في العمل فيشكل أخذه للربح، ولذلك حمل صاحب الجواهر الرواية على حالة عدم إجازة المالك وهو صحيح كما يبدو.

أما السيد اليزدي قدس سره فقال في عروته: "إذا ضارب العامل غيره مع عدم الإذن من المالك ‌فإن أجاز المالك ذلك كان الحكم كما في الإذن السابق في الصور المتقدمة فيلحق كلا حكمه (الأحكام واحدة فيما لو أجاز قبل أو بعد المعاملة ولكن) و إن لم يجز (لا لفظاً ولا ضمناً ولم تلحق إجازة لاحقة) بطلت المضاربة الثانية وحينئذ فإن كان العامل الثاني عمل و حصل الربح فما قرر للمالك في المضاربة الأولى فله (كالنصف والثلث) وأما ما قرر للعامل (النصف الثاني) فهل هو أيضا له (المالك كما هو مختار السيد، بإعتبار بطلان المضاربة الثانية، وعدم عمل العامل الأول بشيء) أو للعامل الأول (مع أخذ العامل الثاني أجرته من الأول، وهو مختار المحقق) أو مشترك بين العاملين (وهذا القول هو قول بعض العامة مع إختلاف الفرض، وهو أنه من أخذ مالاً من شخصٍ مضاربة على أن يكون نصف الربح له ثم ذهب إلى غيره وضارب العامل الثاني بأن يكون النصف بينهما، أما في غير فرضيتهم الإشتراك بحاجة إلى دليل، وكيف كان ففي المسألة:) وجوه و أقوال أقواها الأول لأن المفروض بطلان المضاربة الثانية فلا يستحق العامل الثاني شيئا (للإقدام مع علمه) وأن العامل الأول لم يعمل حتى يستحق فيكون تمام الربح للمالك إذا أجاز تلك المعاملات الواقعة على ماله و يستحق العامل الثاني أجرة عمله مع جهله بالبطلان على العامل الأول لأنه مغرور من قبله".[8]

ويتوافق هذا الرأي مع مباني السيد قدس سره في المقام، بأن الربح يتبع المال، وأن العامل الأول لا يستحق شيئاً وإن أشرف أو أدار المضاربة.

أما التفريعات على هذه المسألة مثل السؤال عن نية العامل الثاني في شرائه هل كان على عين المال أم إشترى بالذمة، وهل هو بذمته فتكون التجارة له، أم بذمة المالك فيكون فضولياً أو شبه ذلك، فنقول بالرغم من صحة التفريعات هذه إلا أن مردّها إلى القضاة لا إلى فتوى الفقهاء.

وهنا نذكر ملاحظة لم يذكرها الفقهاء وهي أن العامل لا يقدم على التجارة إلا إعتماداً على الأموال، فإن كان المال في البنك وأجرى عقوده على الصكوك فإنما ذلك إعتماداً على الرصيد في البنك، وبذلك يكون المالك مستحقاً للربح كما العامل.

وبكلمة: التفريعات والأقوال المذكورة يمكن أن تفهم بصورة أجود مع فهم مباني كل فقيه في المسألة، وهذا ما سنتعرض له في البحث القادم إن شاء الله.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

 


[1] العروة الوثقى-ط جماعة المدرسين، السيدمحمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص189.
[2] جاء في الوسائل الشيعة-الاسلامية، الشيخ الحر العاملي، ج13، ص191 أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سُئِلَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام عَنْ رَجُلٍ أَخَذَ مَالًا مُضَارَبَةً أَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَهُ غَيْرَهُ بِأَقَلَّ مِمَّا أَخَذَ قَالَ: "لَا."
[3] البقرة/السورة2، الآية188.
[4] شرائع الإسلام في مسائل الحلال و الحرام، ط-اسماعيليان، المحقق الحلي، ج2، ص115.
[5] جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي، ج26، ص393.
[6] الشعراء/السورة26، الآية183.
[7] المائدة/السورة5، الآية8.
[8] العروة الوثقى-ط جماعة المدرسين، السيدمحمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص189.