الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

39/04/29

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: تسلسل العاملين / أحكام المضاربة

 

"لا يجوز للعامل أن يوكل وكيلا في عمله أو يستأجر أجيرا إلا بإذن المالك‌ نعم لا بأس بالتوكيل أو الاستيجار في بعض المقدمات على ما هو المتعارف و أما الإيكال إلى الغير وكالة أو استئجارا في أصل التجارة فلا يجوز من دون إذن المالك و معه لا مانع منه"[1] .

 

من المسائل المذكورة في المضاربة هي مسألة متشعبة مرتبطة بتسلسل المضاربة أو المضاربات العرضية، أو العمال العاملين لدى العمال في المضاربة.

قبل كل شيء لابد من القول أن المضاربة تعتمد على توافق الطرفين ولكنه قد يكون توافقاً لفظياً صريحاً وقد يكون ضمنياً وإعتماداً على ماهو متعارف، لإعتماد الناس عليه في التفاصيل التي يتركون بيانها في كل العقود، ولإختلاف الأعراف بإختلاف الأعصار والأمصار، بل وإختلاف الأسواق فإنا نوكل الشروط على العرف الذي إعتمداه.

ومن الأعراف العامة المعمول بها أن للتاجر عمال يقومون بأعمال التجارة من بيع وشراء وإعتبار ونقل و..، وإن سمي المضارب عاملاً إصطلاحاً ولكن يمكن أن لديه عمال يعملون تحت إشرافه، فيجوز ذلك مع إشتراطه لفظياً في العقد أو ضمنياً، ومن الضمن ما يستدعيه العمل، أما إذا إشترط المالك العكس، فحينئذ لابد له الإلتزام بما شرط عليه في العقد.

فالأصل في المقام هو جواز أي عملٍ يستدعيه الإستثمار أو يتعارف عليه المستثمرون، ويعرفه المتعاقدان، والأجور التي تدفع للعامل تكون من الربح، لأن الربح لا يسمى ربحاً إلا بعد أن تستخرج منه جميع مصارف التجارة.

وبالرغم من إختلاف كلمات الفقهاء في بيان هذه المسألة إلا أن مؤداها واحد وهو أن كل ما أتفقا عليه فهو الذي يجري في العقد، فسواء قلنا بعدم الجواز إلا مع الإذن أو بالجواز إلا مع عدم الإذن، لأن المدار هو العرف والإختلاف لفظي، قال السيد اليزدي قدس سره: "لا يجوز للعامل أن يوكل وكيلا في عمله أو يستأجر أجيرا إلا بإذن المالك‌ (وقد عكس البعض العبارة ولا فرق كبير) نعم لا بأس بالتوكيل أو الاستيجار في بعض المقدمات على ما هو المتعارف (فإذا كان العرف هو المعيار فليكن هو المتبع) و أما الإيكال إلى الغير وكالة أو استئجارا في أصل التجارة فلا يجوز من دون إذن المالك ( وهذا بخلاف الفروع المرتبطة بالتجارة، وكأن العامل يوكل شخصاً ليتولى أصل التجارة، وفي هذه الصورة المتجّه هو عدم الجواز إلا مع الإذن الصريح) و معه (الإذن أو كونه ضمن الحالة العرفية المتبعة) لا مانع منه"[2] .

يبدو أن الفقهاء في تضاعيف حديثهم عن المضاربة يعتبرونها نوعٌ من الإذن أو الوكالة، والحق أنها ليست كذلك بل هي عقدٌ يتضمن أجزاء منها الإذن والوكالة والوديعة، ولكن أصل المضاربة عقدٌ يوجب إلتزاماً على المالك كما يوجب إلتزاماً على العامل وكذلك يعطي كلٌ منهما حقه.

 

مضاربة العامل

أما مسألة مضاربة العامل مع عاملٍ آخر ففيها بحوث متشعبة:

الأول: إن الحدود الشرعية حدودٌ واضحة، كالربا وأكل المال بالباطل والغرر – مع القول بشموله لجميع العقود – وكذلك الأمور العامة مثل الضرر والحرج والإكراه، وضمن هذه الحدود يكون العرف متبعاً بشرط أن يعتمده الطرفان، وفي بعض الأحيان تكون هناك أمور وأحكام ولائية، حيث فوّض الشارع العلماء بأن يحكموا في بعض الجهات، وفي ظني أن القدماء من الفقهاء حكموا في هذه المسألة بحكمٍ ولائيٍ وتبعه على ذلك من لحقهم.

وكأن هذه المسألة كانت متداولة في المجتمع سابقاً،كما هو المتداول اليوم في بعض الدول، بأن يأخذ أحدٌ مقاولةً من الوزير أو المسؤول – لعلاقةٍ شخصية معه مثلاً- ثم يعطي هذه المقاولة لغيره لأنه ليس أهلاً للعمل أصلاً، ولذلك حرّم الفقهاء ذلك خصوصاً عند فقهاء العامة، إعتماداً على أن المقاول الأول (المضارب الأول) يأكل المال بالباطل.

وحصول المقاول الأول على المال يكون بطريقتين، فإما يبيع المقاولة لغيره، وإما يضرب بحصة الربح مع العامل الثاني، ولكن الفقهاء لم يتحدثوا عن القسم الأول – ربما لعدم تعارفه حينئذٍ – فخصصوا القول بالثاني وقالوا بحرمته لعدم عمله، وأستدلوا على الحرمة بأن الربح إما يكون ناتجاً للمال أو العمل وكلاهما مفقودٌ في المقام.

 

الثاني: المضارب بعد المضارب الأول أقسام:

     فمنهم من ينسخ الثاني المضارب الأول، كما لو قال له المالك إعمل بمالي ولك حصة من الربح وإن عجزت عن ذلك فأعطها لغيرك يعمل بها، وبذلك يكون المسؤول عن العامل الثاني هو المالك الأصلي وهو طرفه، وإن قيل: كيف صارت المضاربة الثانية ناسخةً للأولى؟

قلنا: بأن ذلك مشروطٌ في العقد ذاته، وكأن المالك تراضى مع العامل بنسخ الثانية للأولى.

     ومنهم من يكون للمضارب مجموعة من المضاربين في عرضه، كما لو قال الأب لإبنه: إعمل بهذه الأموال مضاربةً فإن عجزت فأستعن بأخيك أو إبن عمك، فيكون الآخرين في عرض الأصل والربح يقسم عليهم.

     ومنهم من يقوم العامل الأول بالإتفاق مع عمال آخرين ويقسم عليهم أموال المضاربة لعمل كلٍ منهما في حصةٍ معينة، كما لو أخذ العامل مبلغاً كبيراً من المال لمشروعٍ كبير ثم قسّمه عليهم، هل يجوز ذلك مع أخذ العامل الأول جزءاً من الربح دون أن يعمل حقيقةً؟

نقول: يجوز ذلك، وأخذه لجزءٍ من الربح ليس مقابل لا شيء، بل في مقابل كونه مسؤولاً أمام المالك، مع مسؤولية العمال أمامه، ومقابل كونه مشرفاً على العمال ومدبراً للأمر، فليس الأكل أكلاً بالباطل.

     ومنهم من لا يقوم بتقسيم العمل لمجموعة من العاملين، بل يأخذ من المالك ويعطيه لشخصٍ آخر مع حصوله على جزءٍ من الربح، ويبدو أن هذا هو الذي كان سائداً[3] وإستشكل فيه الفقهاء – وسنقرأ كلماتهم – لأنه صار واسطةً ودلالاً لا غير، فله أجرة الدلالة لا أن يكون شريكاً في الربح في كل المضاربة وإلى النهاية، فيكون أكلاً للمال بالباطل.

نحن نقول: القضية ترتبط بأحد أمرين:

إما ترتبط بحكم الفقيه الجامع للشرائط، حيث يلحظ تحول المجتمع إلى مجموعة دلالين يمتصون جهود الناس من خلال إعطائهم للمضاربات والحصول على حصةٍ من ربحهم، فيحكم الفقيه بالمنع وحكمه نافذ، وهو صحيح، ويبدو أن فتوى الفقهاء القدماء كانت من هذه الجهة.

وإما أن يعتبرها الفقيه عنواناً لأكل المال بالباطل فيمنع منه.

والعناوين الثانوية –كالحرج والضرر وشبههما – ليست أحكاما عامة فلا يقطع بها إلا بحكم الفقيه بإعتبار ولايته – لا مجرد فتواه – لإختلاف حكمه بإختلاف الظروف، كما لو إختلف الحكم في التيمم بين الشاب الذي يمكنه الوصول إلى الماء والشيخ الذي في وصوله إلى الماء حرج، نعم؛ قد يفتي الفقهاء في الحرج بصورة عامة في بعض الموارد.

فإذا تحقق الأكل للمال بالباطل نمنعه من هذه الجهة وإلا فلا يمكن الإفتاء بصورة عامة، وإن قيل بإعتماد العرف في المقام نقول ممكن شريطة عدم مخالفته للحدود الشرعية.

أما إذا ضارب العامل عاملاً آخر بدون علم المالك الأول ودون أن يكون متعارفاً فقد قيل بالبطلان، وقيل بأن الثاني عمل في طول الأول، وحصل الثاني على الربح فقالوا بتقسيم الربح، وفيه إشكال إلا مع تفويض الأول للثاني بالعمل، والله العالم.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.


[1] العروة الوثقى-ط جماعة المدرسين، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص186.
[2] العروة الوثقى-ط جماعة المدرسين، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص186.
[3] ولا يزال في بعض الدول.