الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

39/04/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: عمل العامل في المضاربة / أحكام المضاربة / كتاب المضاربة

 

بحوث كتاب المضاربة تنقسم إلى الحديث عن أصلها وأركانها ومن ثم الأحكام المرتبطة بها، حيث نجد أن صاحب العروة يفصل القول في مسائل الأحكام دون عنونة المسائل المرتبطة ببعضها البعض ونحن نحاول أن نفصل القول ضمن عناوين جامعة لشتات البحوث، ومنها العنوان التالي:

 

الحقوق المتبادلة بين العامل والمالك

ماذا يجب على العامل للمالك، وماذا يجب على المالك للعامل؟

في الجواب على ذلك تفصيل، وقبلئذٍ لابد أن نمهد للحديث بذكر ما ذكرناه سابقاً والذي يتكرر الحديث عنه في هذا الباب وهو أن الأساس في المضاربة كأي عقدٍ آخر يكون المتعاقدان مسؤولين عنه، ولكن بما أن كل عقد له جانب شخصي – بين المتعاقدين - وآخر إجتماعي – لوقوع العقد ضمن بيئة إجتماعية لها دور وحق على المتعاقدين - لابد من دراسة المحددات المفروضة على المتعاقدين من قبل المجتمع.

 

أقسام المحددات

ويبدو لي أن هناك عدة محددات للعقد وهي:

الأول: الشرع المقدس، فمادمنا ملتزمين به فلابد أن نلتزم بأحكامه، وهي تكون على أقسام:

     منها تحديد الشرع العقود بأن لا يكون للربا فيها مدخل، والمضاربة هو العقد النقيض للربا والبديل عنه كما أن الدين بلا منفعة هو البديل الآخر عن الربا.

     أن لا يكون الأكل بالباطل وكما قال الله سبحانه: ﴿وَلاتَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِل‌﴾[1] ، وهذه الآية يستفاد منها عدة قواعد فقهية كلا ضرر ولا يتوى حق امرء مسلم، وكما يسميها علماء القانون الحديث بقاعدة الإثراء بلا سبب، وبإجمالها تدل على حرمة الأكل بالباطل.

     ومن المحددات الشرعية هي أن لا يكون في العقد جهالة، للنهي عن بيع الغرر في الحديث المجمع عليه، والمستفاد منه في سائر العقود من جهة تعميم موضوع الحكم، أو من جهة التمسك بالنبوي الآخر الذي نهى عن مطلق الغرر، والثاني وإن كان ضعيف السند، إلا أن العمل به في عموم الأبواب من قبل الأصحاب يجبره.

     مجموعة من القواعد الأخرى الحاكمة على العقود، إما عمومها أو خصوص عقودٍ معينة.

الثاني: والمحدد الآخر هو المحدد الإجتماعي بقوانين المجتمع المفروضة على المتعاقدين، وليس بالضرورة أن تكون ثابتة سواءً كان مصدرها السلطة السياسية أو الشارع المقدس من جهة ولاية الفقيه.

أما في ولاية الفقيه فلا خلاف في أصل ثبوتها، وإنما الخلاف بين الفقهاء في سعتها وضيقها، فهل الولاية عامة لجميع المجالات أم مقتصرة على الأمور الحسبية، ولا ريب أن الولاية في الأمور الحسبية ثابتة لدى الجميع، وقد يصدر الفقيه حكماً بالمنع أو الإلزام كما في حكم الميرزا الشيرازي بحرمة التنباك، وغير ذلك كثيرٌ في تاريخ الإمامية.

وقد يطال الحكم الولائي المجتمع كله كحرمة التنباك أو حكماً فردياً كحرمة تهريب البضائع في وضعٍ معين، أو حكم الفقيه بالمنع من الإتجار بالدقيق بأرباح معينة في ظروف القحط، أو وضع سقف للمهور، كل ذلك رعايةً للمصلحة العامة، وقد يكون هذا الحكم في العقود والمعاملات أيضاً، فيصدر الفقيه حكماً معيناً من جهة الولاية وإن لم يكن مبسوط اليد، يكون ملزماً لمقلديه ومتبعيه.

وأما في الحكم (القانون) الصادر من الجهات السياسية، فهو متبعٌ مع وجود مصلحة أهم وأعم من المصلحة الشخصية، كما لو أدى تركه إلى حالة الفوضى في المجتمع، خصوصاً مع وجود ميثاق وتعاهد عليه، نعم؛ القانون الوضعي متبع شريطة أن لا يكون مخالفاً للشرع.

وبهذا تكون المحددات هي القوانين الشرعية الثابتة والقوانين الشرعية المتغيرة (الولائية) والقانون الوضعي، أما خارج هذه الأطر من يحدد مرجعية العقد؟

أولاً: المتعاقدان، بإعتبار العقد هو توافقٌ بينهما على عقدٍ يتبع قصديهما وتراضيهما، قال تعالى: ﴿إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُم‌﴾[2] .

ثانياً: بعدئذ تصل النوبة إلى العرف، وهو المعبر عنه في التعابير الفقهية بـ (المتعارف) فالعرف حجة فيما لم يخالف حكماً شرعيأ وفيما إذا إعتمده الطرفان كما هي العادة في إعتماد المتعاقدين العرف في تفاصيل العقود لكيلا يذكراها في بنود العقد.

العرف والعمل في المضاربة

وفيما يرتبط بالمضاربة، يأتي السؤال عن حدود حق المالك على العامل؟

فنجيب بأن ذلك يختلف من عاملٍ إلى آخر، فإذا كان العامل يتجّر بالقماش فعمله يختلف عن التاجر بالأطعمة، وكذا بالمضارب ببناء العقارات، فالتجارة ليست آلة واحدة يمكن تحديدها بحدود ثابتة.

والسيد اليزدي قدس سره يضرب مثلاً للعامل في تجارة الأقمشة (البزاز) ويبين تفاصيل عمله، وهو يسري إلى سائر التجارات والحرف، كلٌ بحسبها.

 

بين المضاربة العامة والمضاربة الفردية

وهنا ملاحظة هامة تصيدتها من مختلف الكتب الفقهية والقانونية، وهي الفرق بين أنواع المضاربة، ففي السابق كانت هناك مكاتب تجارية، يكون للتاجر مجموعة تجارات فيضع مكتباً فرعياً له لإستثمار أموال الآخرين مضاربةً حيث تجتمع لديه أموال الناس ليضارب بها، وتبدلت هذه المكاتب التجارية إلى المصارف والبنوك والمؤسسات التجارية اليوم مثل الشركات الإستثمارية وفي البورصات أيضاً بصورة نسبية، حيث حلّت هذه المؤسسات المالية محل المكاتب التجارية.

ولهذه المكاتب أحكامها المفصلة وبنودها المختلفة وشروطها الواضحة، وهي مبينة ضمن العقد في كتب، والمضارب فيها يعتمد عليها ويبني مساهمته في هذه المؤسسات بناءاً على ما ورد في تلك الكتب.

ولكن هناك نوعٌ آخر من المضاربة هي المضاربة الفردية، بأن يقول صاحب المال للعامل خذ هذه الأموال وضارب بها والربح بيننا، ويبدو لي أن أكثر المسائل المذكورة في الكتب الفقهية ومنها العروة، هي مسائل ترتبط بالمضاربة الفردية، لا المكاتب التجارية والمؤسسات المالية، لأن الثانية كما قلنا لديها قوانينها المحددة، وحسب الظاهر فإن حديث السيد اليزدي قدس سره في العروة في هذا الإتجاه حيث قال في المسألة الثالثة بعد العشرة: "مسألة يجب على العامل بعد تحقق عقد المضاربة ما يعتاد بالنسبة إليه و إلى تلك التجارة‌في مثل ذلك المكان و الزمان (وحسب الطبقات المالية) من العمل و تولي ما يتولاه التاجر لنفسه (كما لو كان المال لنفسه ويضرب السيد مثالاً بالبزاز) من عرض القماش والنشر والطي وقبض الثمن و إيداعه في الصندوق و نحو ذلك مما هو اللائق و المتعارف و يجوز له استيجار من يكون المتعارف استيجاره مثل الدلال و الحمال و الوزان و الكيال و غير ذلك و يعطي الأجرة من الوسط (لا إسراف ولا تقتير) و لو استأجر فيما يتعارف مباشرته بنفسه فالأجرة من ماله (كطي القماش وعرضه فعليه أن يعطي الاجرة من ماله) و (لكن أذا عكس الفرض فـ) لو تولى بنفسه ما يعتاد الاستيجار له فالظاهر جواز أخذ الأجرة إن لم يقصد التبرع و ربما يقال بعدم الجواز و فيه أنه مناف لقاعدة احترام عمل المسلم المفروض عدم وجوبه عليه‌"[3] .

في عمل العامل ما يعتاد على الإستيجار عليه وجوه ثلاث:

الأول: أن يكون المالك قد طلب منه القيام بذلك، وفيه يرجع إلى ما اتفقا عليه.

الثاني: أن يكون العامل متبرعاً بعمله.

الثالث: لم يكن متبرعاً ولم يكن قد طلب منه المالك ذلك، فقيل بعدم إستحقاقه شيئاً، ولكن السيد اليزدي قدس سره يرى إستحقاقه للأجرة وإن لم يكن هناك طلب، واستدل على ذلك بقاعدة "لا يتوى حق امرءٍ مسلم"، وهذه الرواية ضعيفة والأفضل الإستدلال على ذلك بالنصوص الصريحة مثل قوله تعالى: ﴿وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُم‌﴾[4] ، وقوله عزوجل: ﴿لِلرِّجالِ نَصيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا[5] وقوله سبحانه: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى‌﴾[6] فضلاً عن الآيات الناهية عن الظلم لتحقق الظلم هنا بمنع حق العامل أجرته، وشمول قاعدة لا ضرر للمقام.

ويسري الحكم هنا في كل عملٍ قام به شخصٌ لا تبرعاً حيث يستحق أجرة عمله، كما لو أنقذ مصدوماً وصرف عليه أموال المشفى والعملية فأنقذ حياته دون أن يكون متبرعاً، فهو يسترد ما صرفه، فلا يقال بأنه قام بالعمل متبرعاً، لأنه يقال أنه قام بالعمل لوجوب الإنقاذ ولم يتبرع به مجاناً كما لم يتبرع بالأموال التي صرفها، فالمنتفع لابد أن يدفع ما بذله الآخرون، وإلا دخل في عنوان – الإثراء بلا سبب - والذي يبدو لي أن قاعدة لا ضرر أعم منه، وأوضح، لأنا نفهم من قاعدة لا ضرر وجوب نفي الضرر ورفعه، فالمنقذ تضرر لمنفعة المصدوم ولابد أن يسد ضرره، والله العالم.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.


[1] البقرة/السورة2، الآية188.
[2] النساء/السورة4، الآية29.
[3] العروة الوثقى-جماعة المدرسين، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص170.
[4] الشعراء/السورة26، الآية183.
[5] النساء/السورة4، الآية32.
[6] المائدة/السورة5، الآية8.