الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي
بحث الفقه
39/04/15
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: حدود العمل في المضاربة / أحكام المضاربة / كتاب المضاربة
"يجب على العامل بعد تحقق عقد المضاربة ما يعتاد بالنسبة إليه و إلى تلك التجارة في مثل ذلك المكان و الزمان"[1]
الحمد لله رب العالمين وصلى الله عليه وآله الطاهرين.
في سياق الحديث عن مسائل المضاربة مرّ الحديث عن الشراء بالذمة فيها، وقلنا من الناحية الظاهرية حين يتعامل المضارب في أموال المضاربة فإنه حتى لو إشترى شيئاً في الذمة فإن شراءه هذا هو من أجل مصلحة المضاربة في الظاهر.
ولكن بإعتبار إتصاف العامل بأكثر من صفة ـ أي صفته الشخصية أو صفته كعامل للمضاربة ـ فقصده يؤثر في تلك المعاملة، فحين يقصد بأن هذه المعاملة إنما هي لشخصه، أو يشتري للمالك لا للمضاربة بل له فضولاً، فإن ذلك القصد يؤثر في العقد لأن العقود تابعةٌ للقصود، فإن الذمة إذا اشتغلت بالدين لابد أن يعرف من إشتغلت ذمته به وعليه أداءه.
في رأينا أن الصور المتصورة للمسألة ثلاث لا أكثر:
الأولى: الصورة العادية بأن يتعامل على مال المضاربة من أجل المضاربة، كما لو قلب مال المضاربة بالتعاملات العينية.
الثانية: يشتري للمالك بقصده ولكن لا للمضاربة، بل يشتري على ذمته على نحو الفضولي، وفي هذه الصورة يرجع أمر المعاملة إلى إجازة المالك.
الثالثة: يشتري بذمته ولشخصه لا للمضاربة، وقد قسموا هذه الصورة إلى أقسام هي الأداء من ماله الخاص والأداء من مال المضاربة أو عدم الأداء، وهذه الأقسام لا تدخل في صور المعاملة، بل هي دواعي لا تؤثر في العقود، كما لا يبطل الشراء لداعٍ معين لا يتحقق، فالشراء هنا يتم أما كيفية إبراء الذمة فذاك إليه.
حدود العمل في المضاربة
ما هو الظاهر في المضاربة بالنسبة إلى عمل العامل، هل هو السفر أم العمل في الحضر أم غيرها؟
أطال الفقهاء الحديث عن هذه المسألة ولكن بعض التفصيل فيها لا داعي له لإنقراض بعض الصور وتجدد بعضٍ آخر، فأعمال المضارب راجعة إلى نظر العرف.
ففي باب المعاملة نحن نعتبر قصد الطرفين أولاً، فما قصداه هو المتبع، ولكن المتعاملين لا يقصدان عادة التفاصيل ولا يتفقان عليه، لكثرتها ودقة بعضها، وفي هذه الحالة يعتمدون على العرف، فهو المتبع فيما لم يقصداه، وهناك أمرٌ ثالث متبع يظهر من تضاعيف كلمات الفقهاء وهو العدالة، وبعض الفقهاء في حديثه عن الحكم في بعض التفاصيل يرجع حكمه إلى إقتضاء العدالة لذلك، فالله سبحانه يقول: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾[2] فما هو الحكم الموافق للعدالة في هذه المسائل؟
يجب أن نقول أن العدالة متبعة بمقدار بيان الشارع المقدس وتحديده، ولكن في حالات سكوت الشارع وعدم وضوح الصورة، فمن الصعب تحديد الحكم في التفاصيل، فإذا فقدنا قصد الطرفين والعرف فالعدالة غير واضحة كثيراً.
ولذلك في هذه المسألة التي عنوناها عن عمل العامل نقول فيما لو إتفق العامل مع المالك على السفر للمضاربة ورضي المالك، كانت نفقة السفر على المالك، ولكن هل معنى ذلك هو تحمله نفقة ما زاد عن نفقة الحضر فقط أم كل النفقة؟ وهل يستثنى منه نفقة الأيام التي لم يعمل فيها العامل كالأيام التي قضاها للنزهة لا للعمل؟ وما أشبه من التفاصيل الدقيقة.
ومن هنا نقول أن هذه المسائل التفصيلية نرجع فيها إلى قصدهما وتراضيهما أولاً، ومن ثم إلى نظر العرف، أما إذا لم يوجدا فالعدالة صعبة التحقق وفيها يكون الإختلاف الذي وقع فعلاً في كلمات الفقهاء.
نعم؛ بعض الأحيان يكون تحقيق العدالة أمراً بيّناً كما لو كان سفر المضاربة يومين وقضى العامل أسبوعين في السفر فلا ريب من عدم إلزام المالك بنفقة جميع السفر.
أما بيان المتعارف فهو الآخر مختلفٌ في كلمات الفقهاء لإختلاف العرف في الأزمان والأمصار، ولذلك نحن نمتنع الدخول في التفاصيل لإختلافها، وقد راجعت الأعراف المتبعة في الدول فوجدت أن الأعراف تقولبت ضمن قوانين متبعة بإستثناء إيران والأردن وتونس، لم يجعلوا قوانيناً معينة للمضاربة.
نعم؛ بعض الأحيان للحاكم الشرعي أن يحكم بأحكام عادلة ملزمة، كما ضمّن أمير المؤمنين عليه السلام القصّار والطبيب، بالرغم من أن القواعد تقتضي أن الطبيب أمين وليس على الأمين سوى اليمين، ولكن للإحتياط في أرواح الناس ضمّن الإمام الطبيب، وكذا القصار أمينٌ في الحكم الأولي ولكن لكثرة إدعاءهم بذهاب الثياب ضمّنهم أمير المؤمنين عليه السلام.
وفي ظني أن بعض الروايات التي جائت في باب المضاربة هي من باب الولاية، كرواية تضمين التاجر التي رويت عن أمير المؤمنين عليه السلام: "مَنْ ضَمَّنَ مُضَارِبَهُ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا رَأْسُ الْمَالِ وَ لَيْسَ لَهُ مِنَ الرِّبْحِ شَيْءٌ"[3] ، وبالتضمين تبطل المضاربة كما يبدو.
ولعل الإمام عليه السلام أراد بهذا الحكم – عدم تضمين المضارب- تسهيل أمر المضاربة للعمال، الذين يحجمون عن العمل فيما لو ضمنوا مال المضاربة.
قال السيد اليزدي في العروة عن حدود العمل في المضاربة: "يجب على العامل بعد تحقق عقد المضاربة ما يعتاد بالنسبة إليه و إلى تلك التجارة في مثل ذلك المكان و الزمان"[4] وهذا الكلام دقيق، وهو العمل بمقتضى الظروف المحيطة بهذا العمل.
أما التفاصيل التالية فهي مجرد أمثلة على ذلك، حيث قال السيد قدس سره: "من العمل و تولي ما يتولاه التاجر لنفسه من عرض القماش والنشر والطي وقبض الثمن وإيداعه في الصندوق ونحو ذلك مما هو اللائق والمتعارف ويجوز له استيجار من يكون المتعارف استيجاره مثل الدلال والحمال والوزان والكيّال وغير ذلك و يعطي الأجرة من الوسط (من الربح) و لو استأجر فيما يتعارف مباشرته بنفسه فالأجرة من ماله (مال العامل لأنه عمله هو) و لو تولى بنفسه ما يعتاد الاستيجار له (كالحمال والكيال وما أشبه) فالظاهر جواز أخذ الأجرة إن لم يقصد التبرع (مادامت ليست أعماله وقام به لزيادة الربح أو لحصوله على الأجرة بدلهم فعمل كيالاً) وربما يقال بعدم الجواز و فيه أنه مناف لقاعدة احترام عمل المسلم المفروض عدم وجوبه عليه"[5] .
وهذا الكلام دقيقٌ إلا أن يقال أن الذين قالوا بعدم إستحقاقه الأجرة إحتملوا قيامه بها تبرعاً، أما إذا علمنا أنه لم يعملها تبرعاً إستحق الأجرة.
نفقة السفر غير المأذون
قال السيد قدس سره: "قد مر أنه لا يجوز للعامل السفر من دون إذن المالك (أو من دون إقتضاء المضاربة ذلك عرفاً) ومعه (الإذن أو العرف) فنفقته في السفر من رأس المال إلا إذا اشترط المالك كونها على نفسه"[6] .
نقول: يمكن أن تكون النفقة على العامل في السفر كنفقته على نفسه في الحضر، ويمكن أن تكون نفقته في الحضر على المالك أيضاً، وذلك بإختلاف التوافق أو إختلاف الأعراف المتبعة إن إختاراه، كما أن نوع المضاربة تختلف إذ تارةً يكون العامل تاجراً لتجارات كثيرة ومن ضمنها العمل للمالك فلا يحمّل المالك نفقته في السفر، وقد يتحول العامل إلى موظف لدى صاحب المال، فتكون نفقته على المالك، والله العالم.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.