الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي
بحث الفقه
39/04/12
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: المسائل 6 الى 8 / أحكام المضاربة / كتاب المضاربة
"لا يجوز للعامل خلط رأس المال مع مال آخر لنفسه أو غيره، إلاّ مع إذن المالك عموماً، كأن يقول: اعمل به على حسب ما تراه مصلحة، إن كان هناك مصلحة، أو خصوصاً فلو خلط بدون الإذن ضمن التلك، إلا أن المضاربة باقية والربح بين المالين على النسبة"[1] .
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الميامين.
يبيّن الفقهاء رضوان الله عليهم أن المضاربة تهدف إلى الإسترباح وإستثمار المال وبالتالي ينبغي أن تكون بعيدة عن المخاطرة والمغامرة، ومن هنا لا ينبغي للعامل أن يخاطر بمال المالك إلا في حدود إذن المالك، سواء كان الإذن صريحاً أو ضمنياً، لأن طبيعة عمله يؤدي إلى المخاطرة وقد وافق المالك على أصل المضاربة، ومن هنا قالوا إذا لم يأذن المالك للعامل بالسفر أو اشترط عليه عدمه، لم يجز له ذلك خصوصاً في تلك الأزمنة التي كان السفر بعيداً وفيه المزيد من الأخطار، وكذا لو منعه من بيع النسيئة لما فيه من تغرير بمال المالك.
ولكن لنا ملاحظة: في أن مبنى الفقهاء حسبما نستفيده من كلماتهم هو أن المضاربة نوعٌ من الإذن، بمعنى إذن المالك للعامل بالعمل في ماله، ويستشهدون كثيراً بالإذن وبحدوده في كلماتهم، ولذلك قالوا: المضاربة ذاتها عقدٌ جائز بإعتبار جواز الإذن، وهي نوعٌ من الوكالة الجائز وما أشبه.
ونحن نشكك في هذا المبنى، أي كون أساس المضاربة الإذن، نعم؛ في المضاربة إذن، ولكن ليس ذاتها كذلك، فكثير من المعاملات يكون الإذن جزءاً فيها دون أن يكون ذاتها، وأساس المضاربة هو التعاقد بين المالك والعامل والتراضي بينهما وإن استتبع إذن المالك بالتصرف في ماله، فالمضاربة مع السفر أو بيع النسيئة تحتمل الضرر للعامل – بعدم الربح - كما تحتمل الضرر للمالك، ومع إقدامهما تصح.
ومن هنا، فإن الإذن جزءٌ من المضاربة لا كونه حقيقتها، وقد تكون هناك بعض المفارقات بين الأمرين، أحدها تحول المضاربة عقدٌ جائز بذاته مما لم نقل به، بل ذهبنا إلى العكس بكونها لازمة بذاتها إلا أن يكون هناك سبب للجواز، أو لا أقل من القول بأنها عقدٌ يتفق طرفاه على اللزوم والجواز، لأنا ذكرنا أن أساس العمل الإقتصادي بحاجة إلى نوعٍ من الإستقرار، وبتسليط سيف الجواز على رأس العامل ربما لا يقدر على الإتجار بالمال.
هذا كله فضلاً عما ذكره البعض من أن أصل المضاربة هو من عقود المخاطرة كالجعالة وما أشبه، لأن التجارة ليست كسائر الأعمال معلومة الإسترباح بل فيها بعض المغامرة والمخاطرة.
فساد المضاربة مخالفة الشرط
وقبل أن نناقش القول في الفروع المبنية على المقام، بقي بعض الحديث عن المسألة السابقة، أي مسألة مخالفة العامل لشروط المالك، فلو فسدت المضاربة وتبين فسادها أو لا أقل فسدت حال إخلال العامل بالشروط الأصلية التي وضعها المالك على نحو المصب، قال الفقهاء أن الرويات مخالفة للقاعدة - المقتضية بجعل الربح كله للمالك والأجرة للعامل- بجعل الربح بينهما على ما اتفقا عليه، ومن فقهائنا من إعتبر الروايات موافقة لمقتضى القاعدة، لأن أولاً: الطرفان إتفقا على أن يكون الربح بينهما، فيستحق العامل ذلك للتوافق السابق ويلزم المالك للإقدام.
وثانياً: لم يأت الربح نتيجة المال وحده، بل نتيجة المال والعمل.
ثالثاً: بل قد يكون العمل أدعى للربح من المال، كما قد يكون العكس، نعم ليس للعامل في حالة أرجحية عمله للربح المطالبة بالمزيد لإقدامه هو على ما اتفق عليه.
ومما دل على لزوم الإلتزام بشروط المالك ما ورد عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام: "فِي الْمَالِ الَّذِي يَعْمَلُ بِهِ مُضَارَبَةً لَهُ مِنَ الرِّبْحِ وَ لَيْسَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَضِيعَةِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُخَالِفَ أَمْرَ صَاحِبِ الْمَالِ فَإِنَّ الْعَبَّاسَ كَانَ كَثِيرَ الْمَالِ وَكَانَ يُعْطِي الرِّجَالَ يَعْمَلُونَ بِهِ مُضَارَبَةً وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَنْزِلُوا بَطْنَ وَادٍ وَلَا يَشْتَرُوا ذَا كَبِدٍ رَطْبَةٍ فَإِنْ خَالَفْتَ شَيْئاً مِمَّا أَمَرْتُكَ بِهِ فَأَنْتَ ضَامِنٌ لِلْمَالِ"[2] .
وبالرغم من تحديد بعض الفقهاء ـ كصاحب الشرائع ـ ذلك بالمخالفة في شرط السفر وشراء شيء معين، إلا أن الروايات عامة ومطلقة تشمل المخالفة لأي شرطٍ من الشروط.
خلط مال المضاربة بغيره
وفيما يرتبط بالمخاطرة بمال المالك، فهناك مسائل مختلفة أوردها السيد اليزدي قدس سره أولها خلط مال المضاربة بمالٍ آخر حيث قال السيد قدس سره: "لا يجوز للعامل خلط رأس المال مع مال آخر لنفسه أو غيره، إلاّ مع إذن المالك عموماً، كأن يقول: اعمل به على حسب ما تراه مصلحة، إن كان هناك مصلحة، أو خصوصاً فلو خلط بدون الإذن ضمن التلك، إلا أن المضاربة باقية والربح بين المالين على النسبة"[3] .
وفي المقام بحثٌ بين الفقهاء، فمنهم من قال أن إطلاق العقد يقتضي جواز الخلط إلا مع وجود المنع، ومنهم ـ كصاحب العروة ـ من يرى العكس، حيث يعتبر خلط المال بمال آخر بحاجة إلى إذن عامٍ أو خاص، إلا إذا كان ذلك موجب الإطلاق عند العرف.
والفرق بين القولين يظهر في أمرين:
الأول: سبق وأن قلنا بكون المضاربة هل هي إذنٌ أم عقدٌ واتفاق، فإن قلنا بكونها عقد وإتفاق –كما اخترناه- فالأصل في التصرف هو الجواز حتى يأتي المنع، بخلاف الثاني.
الثاني: إذا كان العرف يقتضي إختلاط المال في المضاربة – كما كان المعروف تاريخياً حيث كان الناس يعطون أموالهم لتاجر يتجر بها مع تجارته- فالإطلاق ينصرف إلى إمكان الخلط وعدمه بحاجة إلى دليل.
نقول: في مثل هذه المسألة لا نستطيع أن نعطي حكماً قاطعاً، بل نرجع فيه إلى الحالة المتعارفة، والحالات المختلفة، فلو فرض كون التاجر لا يقدر على العمل بأكثر من مليون وأعطى المالك له مليوناً فليس له أن يخلطه بمالٍ آخر بأزيد من قدرته على العمل، وإلا ربما كان له ذلك.
والعرف اليوم يرى أن تراكم الثروات سبب أساس للنجاح في الأعمال الإقتصادية الكبرى، وتراكم الثروة يستدعي خلط الأموال مع بعضها البعض لتأسيس المزيد من الشركات الكبرى.
وعلى أي حال فنحن لا نحكم حكماً واحداً لكل الحالت بل نرجع الأمر إلى العرف وإلى الظروف.
فلو فرضنا عدم جواز خلط الأموال لعدم المتعارف أو عدم الإذن الصريح وخلطها العامل ضمن التلك، لمخالفته الشرط، مع كون الربح بينهما.
أما بقاء المضاربة فليس دائماً، لأن بعض القيود تجعل المقيد عدمٌ عند عدمها، لكونها أحترازية تفيد عدم إرادة العقد من دونها.
السفر في المضاربة
قال السيد اليزدي قدس سره: "مع إطلاق العقد يجوز للعامل التصرف على حسب ما يراه، من حيث البائع والمشتري، ونوع الجنس المشترى، لكن لا يجوز له أن يسافر من دون إذن المالك، إلا إذا كان هناك متعارف ينصرف إليه، وإن خالف فسافر فعلى ما مرً من المسألة السابقة"[4] .
مرة أخرى نرى تأكيد الفقهاء لما هو متعارف بين الناس، فلنجعل الأمر على العرف منذ البدء لإختلاف الاعراف حسب البلدان والأزمان، وهذا يشمل حالة البيع والشراء والجنس المضارب به.
أما بالنسبة إلى السفر فلوجود الخطورة فيه فهو بحاجة إلى إذنٍ عام أو خاص، ولكن اليوم حيث لا خطورة في الأسفار أو فقل قلّتها، ففي إطلاق القول نظر، ولربما كان في البقاء في البلد خطر على المال إما لتلفه أو لوجود موانع تمنع إستثمار المال فيه.
أما إذا منعه المالك فخالف وسافر كان ضامناً للتلف والوضيعة، مع كون الربح بينهما، فربما يقدم العامل على المجازفة بالسفر – مع المنع - لعلمه أو ظنه الغالب بحصول الربح.
ولتحمل الضرر وضمانه ثلاثة صور:
الأول: تلف المال.
الثاني: عدم ربح التجارة وخسارة المال.
الثالث: الربح القليل الذي يعد خسارةً في مقابل تجارة أخرى.
فهل يكون العامل ضامناً في الصورة الثالثة كما في الأوليتين؟
لم يتعرض الفقهاء لهذه الصورة ويبدو أن ذلك عائدٌ إلى شرطهما في العقد، فإذا شرط عليه درك الثمن مطلقاً ضمن.
البيع نسيئةً
إذا إشترط المالك على العامل أن يبيع نقداً أو أطلق وكان المتعارف ذلك، ضمن العامل مع المخالفة، أما إذا أطلق وكان العرف يبني معاملاته على النسيئة فلا يضمن، قال السيد اليزدي قدس سره: "مع إطلاق العقد وعدم الإذن في البيع نسيئةً، لا يجوز له ذلك إلا أن يكون متعارفاً ينصرف إليه الإطلاق"[5] .
أما لو باع نسيئة وعلم المالك بذلك ورضي فلا إشكال، وكذا لا إشكال فيما لو باع نسيئةً واستوفى الحق قبل علم المالك، أما إذا أبطل المالك البيع برفضه للنسيئة فمن يأخذ حقه؟ من العامل أم من بيده العين؟
ذهب السيد اليزدي قدس سره إلى التخيير، فله الرجوع إلى العامل لأنه الضامن وكذا إلى المشتري لأن عين ماله عنده، قال السيد اليزدي في بيان ذلك: "ولو خالف في غير موارد الإنصراف فإن أستوفى الثمن قبل إطلاع المالك فهو، وإن اطلع المالك قبل الإستيفاء فإن أمضى فهو وإلا فالبيع باطل، وله الرجوع على كل من العامل والمشتري مع عدم وجود المال عنده"[6] .
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.