الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

39/04/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: ضمان العامل لو خالف شرط المالك / كتاب المضاربة

 

"إذا اشترط المالك على العامل أن لا يسافر مطلقا أو إلى البلد الفلاني‌ أو إلا إلى البلد الفلاني أو لا يشتري الجنس الفلاني أو إلا الجنس الفلاني أو لا يبيع من زيد مثلا أو إلا من زيد أو لا يشتري من شخص أو إلا من شخص معين أو نحو ذلك من الشروط فلا يجوز له المخالفة و إلا ضمن المال"[1] .

 

الحديث في كتاب المضاربة يبتدء ببيان معنى المضاربة ومن ثم أركان هذا العقد، ومن ثم أحكامه، ونحن الآن بصدد بيان بعض تلك الأحكام، وقبل الحديث عن البحث الذي يورده العلامة الطباطبائي قدس سره في العروة، من المهم معرفة أمرين أساسيين على نحو التمهيد:

الأول: لا يتبع الإسلام العرف في كل شيء، وإنما يوجهه ومن ثم يجعل العقود مرتبطة به بعد توجيهه، وكما قال الله سبحانه: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلين‌﴾[2] ، ومن التوجيهات الأساسية التي عملها الشرع للعرف وحدده بها هي "تحقيق العدالة" فالعدالة قيمةٌ أساسية، وربنا يؤكد عليها في أكثر من آية مثل قوله سبحانه: ﴿وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطين‌﴾[3] ، وقوله تعالى: ﴿وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى‌ أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى‌﴾[4] ، وكذا يؤكد عليها في عرض الحديث عن التجارة حيث يقول: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ[5] ، فالآية تشير إلى وجود جانب سلبي لأكل المال وهو الأكل بالباطل، وجانب إيجابي هو الأكل ضمن العقود، كل ذلك من أجل تحقيق العدالة.

ومن ذلك لو عمل إنسانٌ في شركة أو مضاربة أو عقدٍ غير مسمىً فله أجره، وإن كان العمل فيه جهتا المال والعمل فلهما أجرهما بالتساوي أو حسب التراضي، فإذا تراضيا على عقدٍ معين ثم بان العقد فاسداً مع وجود الربح فيجب تقسيمه بينهما حسب تراضيهما لا حسبما يراه العرف ولا يعطى الربح كله للمالك وللعامل أجرة المثل، ولا العكس أيضاً، فالربح المتفق لا علاقة له بسبب بطلان العقد، إنما هو مرتبطٌ بتحقيق العدالة، ولذلك في مثل هذه المسألة لا نرجع إلى العرف، لأن الأمر بالعدل هنا مقدمٌ على الرجوع إليه، نعم يرجع إليه في مقامات أخرى.

الثاني: يقصد من العرف الذي يرجع إليه هو المتعارف بين الناس الذين جرى العقد بينهم، وبذلك تختلف الأعراف بإختلاف الزمان والمكان، كما ربما تختلف بإختلاف المهن والصنائع.

وقد أجهد الفقهاء أنفسهم لتحديد العرف وتحديد ما ينبغي أن يشذب به من الأحكام الشرعية، فحددوا كل ذلك وثبّتوه في كتبهم وتناقلها الأجيال جيلاً بعد آخر، فثبتت كأنها أحكامٌ ثابته، ولكن العرف تغيّر بتغيّر الزمان والظروف، فالمضاربة ربما كانت العقد الوحيد حينذاك في التعامل بين المال والرجال، بينما اليوم هناك عقودٌ وطرق مختلفة لذلك، ولذلك علينا إذاً أن نكتشف العرف في زماننا، والسبيل إلى ذلك يكون عبر أمرين:

أولاً: النزول إلى السوق وسؤال أهله وأهل الخبرة، وهذا أمرٌ يصعب الوصول إليه ويطول تحقيقه، لإختلاف أهل كل عرفٍ عن الآخر.

ثانياً: بالرجوع إلى القوانين والأنظمة المرعية، فإن كان القانون مأخوذاً من الشرع المبين كما في بعض البلدان لإشراف الفقهاء على كتابة القانون فبها، وإلا فإنه ـ كما في القانون التجاري في الكثير من البلدان ـ بيان للأعراف الدولية المرعية وهذا ما يعطيه قيمة عرفية، فإن لم يخالف الدين وجعله الناس محور معاملاتهم إعتمدناه كعرفٍ لهم.

ومن هنا يمكن إستكشاف العرف في بعض البلاد بالقوانين المرعية عندهم والتي لا تخالف الأحكام الشرعية، ولذلك فحين نقرأ كلمات الفقهاء بأن العقد يدل بإطلاقه على كذا وكذا، فإن المقصود من الإطلاق هو ما ينصرف إليه العقد بالإطلاق – دون تقييد بالشرط - عند هذا العرف، فربما كان العرف السابق يرى إطلاق العقد هكذا دون العرف اللاحق.

وتحديد العرف قد يكون من واجبات الفقيه، وقد يكون من واجبات القاضي، كما يمكن أن يكون تحديد جوانب العقد من شأن المتعاقدين حيث يتفقان على مختلف الجزئيات التي يحتمل أن تقع موق إختلاف.

 

إشتراط المالك على العامل

وفي هذا الإطار نبين المسائل التالية حسب سياق كتاب العروة في إشتراط المالك لشروطٍ معينة مع عدم إلتزام العامل بها، حيث تختل المضاربة.

وبعد بطلانها قد يكون للعرف رأي ولكن للشرع رأي آخر فيما إذا كان هناك ربحٌ، فيقسم بينهما من باب الحق لا من جهة العرف، فللعامل حقٌ يستحقه كما للمالك، فيجب أن يقسم الربح بينهما حسب توافقها السابق، قال السيد اليزدي قدس سره: "إذا اشترط المالك على العامل أن لا يسافر مطلقا أو إلى البلد الفلاني‌ أو إلا إلى البلد الفلاني أو لا يشتري الجنس الفلاني أو إلا الجنس الفلاني (كما لو قال اريد أن تتاجر في التمر فقط) أو لا يبيع من زيد مثلا أو إلا من زيد أو لا يشتري من شخص أو إلا من شخص معين أو نحو ذلك من الشروط (وهذه شقوق الشروط التي يشترط بها المالك على العامل، طبعاً للعامل أن يرفض وإذا التزم) فلا يجوز له المخالفة و إلا ضمن المال لو تلف بعضا أو كلا (لتحول يده بالمخالفة إلى ضمينة) و ضمن الخسارة مع فرضها و مقتضى القاعدة و إن كان كون تمام الربح للمالك على فرض إرادة القيدية إذا أجاز المعاملة و ثبوت خيار تخلف الشرط على فرض كون المراد من الشرط التزام في الالتزام و كون تمام الربح له على تقدير الفسخ"[6] .

 

القاعدة الأولية:

أسس قدس سره القاعدة الأساسية في المسألة حيث يختلف الأمر بإختلاف أقسام الشرط:

فقد يكون الشرط مصب العقد، بأن يكون محورياً عند المالك كما لو قال له: لا تتاجر مع المشركين، لعدم حلية أموالهم.

وقد يكون الشرط على نحو القيد الإضافي غير الجدي، ففي مثل هذه الحالة يجوز للمالك أن يمضي المعاملة لتحولها إلى الفضولية.

وقد يكون على على نحو الإلتزام في الإلتزام.

فإذا كان الشرط على النحو الأول بطلت، وأما في الصورة الثانية فإن أجاز المالك كان الربح بينهما وإلا بطل أيضاً، وفي الصورة الثالثة من الشروط يكون للمالك خيار تخلف الشرط.

وكيف كان ففي مثل هذه الحالات يرى قدس سره، أن مقتضى القاعدة البطلان وعليه فيكون الربح كله للمالك وليس للعامل سوى أجرة المثل، لكن النصوص دلت على خلاف ذلك فيجب الإلتزام بها خلافاً لمقتضى القاعدة.

ولنا وقفة في ما ذكره قدس سره: في عدم ثبوت كون مقتضى القاعدة جعل الربح كله للمالك مع إعطاء العامل أجرة المثل، نعم؛ الذي يرى أن الربح للمال فقط يقول بذلك، ولكنا قلنا أن الربح إنما جاء نتيجة المال والعمل، فقد لا يكون للمال الدور الكبير في حصول الربح، كما قد يكون العكس، فليس لدينا قاعدة عامة تقتضي إتصال الربح بالمال.

وفي هذا المجال بحثٌ طويل، من أن الغاصب للأرض أو البذر هل يستحق شيئاً من الزرع أم كله لصاحب الأرض- إن كان قد غصب الأرض- أو البذر المغصوبة، وليس له شيء؟ نحن نقول إن في جعل الزرع تابعاً للبذر فقط إشكالٌ عقلاً وعملاً، فالزرع بين العامل وبين صاحب الأرض أو بينه وبين صاحب البذر.

والسيد الشيرازي قدس سره، يوافق في البدء قول صاحب العروة ولكنه يعدل عنه في نهاية المطاف دون أن يحذف قوله الأول، وهذا من سيرة العلماء لإنهم يعتبرون الرأي الأول أجتهادٌ كما الرأي الثاني، فربما يكون هذا صحيحاً وربما يكون ذاك، ويدعون القارئ يرى كلاً من الرأيين، دون أن يستبدوا برأي، يقول السيد الشيرازي قدس سره:"نعم يمكن أن يجعل هذه الروايات على وفق القاعدة باعتبار أن الربح وليد المال والعمل، فاللازم تقسيمه بينهما، فيكون حاله حال ما إذا صبغ الغاصب الثوب فارتفعت قيمته، حيث يكون الربح بينهما، وإن كان التلوين على خلاف رضاية المالك"[7] .

 

روايات المقام

أما النصوص التي إعتمدها الفقهاء ومنهم صاحب العروة قدس سره في هذه المسألة وإعتمدت في المسائل اللاحقة أيضاً فهي:

     صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُعْطِي الْمَالَ مُضَارَبَةً وَ يَنْهَى أَنْ يَخْرُجَ بِهِ فَخَرَجَ قَالَ: "يُضَمَّنُ الْمَالَ وَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا"[8] .

     عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام: فِي الرَّجُلِ يُعْطِي الرَّجُلَ الْمَالَ فَيَقُولُ لَهُ ائْتِ أَرْضَ كَذَا وَ كَذَا وَ لَا تُجَاوِزْهَا وَ اشْتَرِ مِنْهَا قَالَ: "فَإِنْ جَاوَزَهَا وَ هَلَكَ الْمَالُ فَهُوَ ضَامِنٌ وَ إِنْ اشْتَرَى مَتَاعاً فَوَضَعَ فِيهِ فَهُوَ عَلَيْهِ وَ إِنْ رَبِحَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا"[9] .

     وعنه عليه السلام أيضاً: "فِي الرَّجُلِ يُعْطِي الرَّجُلَ مَالًا مُضَارَبَةً فَيُخَالِفُ مَا شُرِطَ عَلَيْهِ قَالَ هُوَ ضَامِنٌ وَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا"[10] .

ولوجود هذه الروايات الصحيحة والصريحة قال السيد قدس سره: "إلا أن الأقوى اشتراكهما في الربح على ما قرر لجملة من الأخبار الدالة على ذلك و لا داعي إلى حملها على بعض المحامل و لا إلى الاقتصار على مواردها لاستفادة العموم من بعضها الآخر‌"[11] .

ويستفاد من عدم تحديد الرواية لمقدار الربح، أنه يكون بحسب ما اتفقا عليه، والله العالم.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

 


[1] العروة الوثقى-جماعة المدرسين، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص162.
[2] سورة الأعراف، الأية 199.
[3] الحجرات/السورة49، الآية9.
[4] المائدة/السورة5، الآية8.
[5] النساء/السورة4، الآية29.
[6] العروة الوثقى-جماعة المدرسين، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص162.
[7] الفقه، السيد محمد الشيرازي، ج53، ص218.
[8] الكافي-ط الاسلامية، الشيخ الكليني، ج5، ص240.
[9] الكافي-ط الاسلامية، الشيخ الكليني، ج5، ص240.
[10] تهذيب الأحكام، شيخ الطائفة، ج7، ص190.
[11] العروة الوثقى-جماعة المدرسين، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص162.