الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي
بحث الفقه
39/04/06
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: اللزوم والجواز في المضاربة / شروط المضاربة / كتاب المضاربة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
من المسائل التي كثر الحوار والحديث عنها بين الفقهاء عن ماهية المضاربة، هل هو عقد جائز أم لازم، وإن كان جائزاً هل يمكن إشتراط اللزوم فيه أم لا؟
وهذه المسألة تستدعي الحديث عن الشرط وبالذات الشرط في العقود الجائزة، فكيف يمكن أن نعتبر الشرط في العقد الجائز وهل هو واجب الوفاء به أم لا، فإذا كان أصل العقد جائزاً كيف يجب الوفاء بشرطٍ تابع للعقد؟
وهذا التساؤل أثار إهتمام الكثير من الفقهاء، وقبل الدخول في أطراف الحديث عن هذا الأمر نقرأ عبارة السيد اليزدي قدس سره في العروة، ومن ثم نناقش بعض جوانبها، قال قدس سره: "المضاربة جائزة من الطرفينيجوز لكل منهما فسخها سواء كان قبل الشروع في العمل أو بعده قبل حصول الربح أو بعده نض المال أو كان به عروض مطلقا كانت أو مع اشتراط الأجل و إن كان قبل انقضائه نعم لو اشترط فيها عدم الفسخ إلى زمان كذا يمكن أن يقال بعدم جواز فسخها قبله بل هو الأقوى لوجوب الوفاء بالشرط ولكن عن المشهور بطلان الشرط المذكور بل العقد أيضا لأنه مناف لمقتضى العقد و فيه منع بل هو مناف لإطلاقه و دعوى أن الشرط في العقود الغير اللازمة غير لازم الوفاء ممنوعة نعم يجوز فسخ العقد فيسقط الشرط و إلا فما دام العقد باقيا يجب الوفاء بالشرط فيه و هذا إنما يتم في غير الشرط الذي مفاده عدم الفسخ مثل المقام فإنه يوجب لزوم ذلك العقد هذا و لو شرط عدم فسخها في ضمن عقد لازم آخر فلا إشكال في صحة الشرط و لزومه و هذا يؤيد ما ذكرنا من عدم كون الشرط المذكور منافيا لمقتضى العقد إذ لو كان منافيا لزم عدم صحته في ضمنعقد آخر أيضاً"[1] .
هنا مجموعة فروع تداخلت في كلام السيد قدس سره مع إستدلاله عليها نذكر بعضها:
الأول: أساساً كيف يمكن تصور الشرط في العقد الجائز؟ فمفاد قاعدة "المؤمنون عند شروطهم" المستفادة من الحديث النبوي المعروف، هو وجوب الوفاء بكل شرطٍ ضمن العقد، ولكن من جهة أخرى نجد أن العقد بذاته غير لازم، فكيف يكون الوفاء بالشرط التابع له لازماً؟
والحق أن هناك مخرجان لمثل هذا التساؤل:
الف ـ العقد يصوغه الشرط، فإذا عقد إنسانٌ عقداً فمحتوى العقد هو محتواه عند العرف، مضافاً إلى الشروط المتفق عليها؛ فالشرط سواء كان ضمنياً أو مذكوراً، فإنه يلّون العقد بلونه، وبتعبير آخر يصوغ العقد وفقاً للشرط، فمثلاً لو قال إشتريت البضاعة بشرط إيصالها إلى البيت، فهو يريد الشراء مع الإيصال، فالتجارة عن تراض إنما كانت بعد أن رضي الطرفان بنوع عقدٍ معين وهو الشراء مع الإيصال.
والأمر ذاته يصدق في العقود الجائزة، فحين يشترط أحدٌ شروطاً في العقد الجائز ـ كما فعل عباس عم النبي صلى الله عليه وآله من الإشتراط على عماله بعدم ركوب بحرٍ أو نزول وادي ـ فإنه وإن كان مجرد عقد جائز ولكنه ملون بلون الشرط، والنبي صلى الله عليه وآله، أمضى هذه العقود.
ولكن لقائل أن يقول ما فائدة الشرط مع كون أصل العقد جائزاً؟
فنقول: إذا لم يف العامل بالشرط كما لو ركب البحر أو دخل الوادي فتلف المال كان ضامناً، أما إذا التزم بالشرط وتلف المال لا يكون كذلك.
وبكلمة: الشرط في أي عقدٍ سواء كان جائزاً أو لازماً، يصبح جزءاً من الموضوع بل مقولباً له ومحوراً للمعاملة.
باء ـ مفهوم "المؤمنون عند شروطهم" في العقود الجائزة يكون ملزماً مادام ملتزماً بأصل العقد، ومتى ما فسخ العقد بطل الشرط أيضاً، ومعنى ذلك أن الشرط وجوب الوفاء بالشرط مرتبطٌ بالوفاء بالعقد، ومادامه لم يفسخ كان مسؤولاً عن الشرط، فالرجل ملزمٌ بأداء حقوق زوجته مادامت زوجته وإن كان بإمكانه أن يطلقها.
الشرط المغير لجوهر العقد
هذا كله في أصل الإشتراط في العقود الجائزة ولكن يبقى السؤال عن حكم الشرط المغير لجوهر العقد، كما لو شرط – في العقد الجائز- عدم الفسخ، أي تحويل العقد إلى عقدٍ لازم، كمن يتزوج بشرط عدم الطلاق، وقد قيل بالجواز، ونحن نرى – كما ذهب أكثر المعلقين - إلى أن هذا القول فيه شيءٌ من التهافت، حيث يشترط في العقد الجائز شرطاً بلزوم العقد، ونحن قلنا بأن الإلتزام بالشرط في العقود الجائزة مادامي، فيشكل على ذلك ما ذكره السيد قدس سره.
ولنا مخرج آخر: إذ يقول السيد قدس سره بالجواز إن لم يكن الشرط مخالفاً لمقتضى العقد، ونحن فرّقنا بين الشرط المخالف لمقتضى العقد والمخالف لإطلاقه، ففي الأول خرمٌ لجوهر العقد دون الثاني، ومن هنا نتسائل: هل الجواز هو جوهر عقد المضاربة أم هو مقتضى إطلاقها؟
يقول السيد أن هذا الأمر مقتضى إطلاق المضاربة لا مقتضاها، مستدلاً على فتوى المشهور بجواز جعل شرط عدم الفسخ ضمن عقدٍ لازمٍ آخر، كما لو عقد لبيعٍ واشترط فيه أن لا يفسخ عقد المضاربة، فيلزم الشرط للزوم العقد، فهذا دليل على أن هذا الشرط غير مخالف لمقتضى العقد، وليس هذا مثل إشتراط عدم تمليك المشتري ما اشتراه.
فمادام الأمر كذلك فيمكن القول بإشتراط عدم الفسخ مباشرة، لا ضمن عقدٍ لازم آخر.
مرجعية العرف في العقود
الثاني: سبق منا القول أن مرجعية العقود إلى العرف، لأن الشارع المقدس أكتفى بالأمر بالوفاء بالعقود والنهي عن أكل المال إلا ما كان تجارةً عن تراض، ولزوم الوفاء بالشرط، دون أن يحد الحدود في التفاصيل إلا في بعض الموارد، ومادامه أطلق في بيانه، فلابد من الرجوع إلى العرف في العقود، لأن العقد عقدان أحدهما يكون بين المتعاقدين فحسب دون إرادةٍ منهم للرجوع إلى القاضي عند الإختلاف، وأحدهما يحتمل فيه الإختلاف فيجعلان لأنفسهما مرجعاً يرجعان إليه، وذلك المرجع هو العرف، إذ هو مصدر العقود قديماً وحديثاً، وقد كثير تعبير الفقهاء عن هذه الحقيقة بقولهم: هذا هو المتعارف أو ما تعارف أو شبهه.
وبرأينا أن عنوان العرف بحاجة إلى دراسة فقهية عميقة، لمدخليته في كثير من الشؤون، فلابد من معرفة حدود العرف وسيرة العقلاء ومدى حجيته.
ومادام العرف هو المرجع في العقود فقد يعتبر عقداً ما في ظرفٍ معين عقداً جائزاً، وقد يعتبر ذات العقد في ظرفٍ آخر عقداً لازماً، ولابد أن نلتزم بما حكم به، لأن العقد هو عقد العرف وتابعٌ لقصده، ومبنيٌ على تراضي أهل هذا العرف.
الثالث: هل الجواز من مقتضى عقد المضاربة؟
نقول: لنذهب إلى جوهر المضاربة، سنجده أنه التكامل بين المال والرجال، بين قوة الثروة وقوة العمل، وهدفه الإسترباح، فما علاقة الجواز واللزوم بهذا الجوهر؟
ومن هنا نتسائل، أيهما إلى الإسترباح – هذا الهدف الذي هو جوهر المضاربة- أقرب؟ هل كونه جائزاً أم لازماً ولو إلى حين؟
ويبدو لي أن الأقرب هو جعله لازماً ولو إلى حين، لأن التاجر وكذا العامل يحتاجان إلى الإستقرار، فالذي بيده مال يريد التجارة بها يحتاج إلى إستقرار ليخطط للبيع والشراء، فإحتمال الفسخ في كل لحظة مانعٌ من ذلك.
ولذلك العرف كما يبدو لنا – أو على الأقل في بعض البلدان- يرى إشتراط لزوم المعاملة إلى فترة معينة لا يمكن للطرفين الرجوع في تلك الفترة، سواء جعل ذلك بشرطٍ ظاهر أو حتى ربما شرطاً ضمنياً.
وهناك مسائل أخرى بينها السيد قدس سره ينبغي الحديث عنها ، نسأل الله أن يوفقنا لذلك.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.