الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

39/04/01

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الشروط العامة / شروط المضاربة / كتاب المضاربة

 

"أن لا يكون رأس المال بمقدار يعجز العامل عن التجارة به مع اشتراط المباشرة من دون الاستعانة بالغير أو كان عاجزا حتى مع الاستعانة بالغير و إلا فلا يصح لاشتراط كون العامل قادرا على العمل"[1]

 

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

في حديثنا عن المضاربة لابد أن نمهد بأنا إذا أضفنا شروطاً فوق شروط وعقدنا عقد المضاربة ربما ساهم ذلك في عزوف الناس عن الربا وتوجههم إلى المعاملات الربوية، لذلك نقول: كما أن تحليل الحرام لا يجوز كذلك لا يجوز تحريم الحلال، بل هي محددة تحديداً دقيقاً، ولذلك نحن وجدنا في الشروط المعتبرة سابقاً عدم وجود دليلٍ صريحٍ من الروايات يدل عليه، بل بعضها متسربٌ من الفقه الآخر إلينا، ولا مجال لذكر الدليل على ذلك ههنا.

وبالمقارنة بين بعض النصوص وجدنا مطابقة حتى مع العبارة، ونحن قد نرى هذه القضية في التفسير أيضاً، فأحد علمائنا يذكر موضوعاً ما ويسترسل في الكلام حتى يصل إلى حرملة بن كاهل ويمدحه هناك، الأمر الذي يظهر نقل العالم لبعض عبارات العامة ولم يراجعه قبل تثبيته في كتاباته، ولذلك يأمرنا الله سبحانه بأن نستمع القول فنتبع أحسنه[2] .

ومن هنا ينبغي أن لا يكون الإتجاه العام التضييق على ما وسّعه الشرع وكذلك العكس لا يجوز بأن نوسع ما ضيّقه الشرع، أما بسبب الإحتياط الذي هو أمرٌ جيدٌ يتحول الى إحتياط فلا، وفقهائنا كانوا دقيقين في بيان الإحتياط وتفريقه عن الفتوى.

 

الشرط السادس: القدرة على العمل

هذا الشرط هو شرطٌ عقلي، فما من تكليفٍ شرعي أو عقلي أو عرفي إلا وهو مشروطٌ بالقدرة، ومن هنا فليس من الضروري ذكر القدرة على التسليم في البيع مثلاً، أو القدرة على المنفعة في الإجارة وهكذا في سائر العقود، ولكن لماذا خصصوا هذا الشرط بمزيد من البيان في باب المضاربة، بإعتبار كون المضارب قادراً على استثمار المال؟

فصاحب المال مهتمٌ بماله ويعرف كيف يتصرف بماله، ويعرف قدرة العامل على حفظ المال وإنمائه عن عدمه، وهذا الأمر راجعٌ إلى العرف فلا ضرورة لذكره حينئذٍ في ضمن الشروط.

هذا مضافاً إلى أنا لا نشترط القدرة في بعض العقود، بل قد يكون العجز هو السمة العامة فيه مثل الجعالة، كما لو قال الجاعل من تسلق الجبل له كذا، أو من وجد ضالتي أعطيه كذا، فمن الطبيعي أن الكثير من الناس ربما يبحثوا عن ضالته ويعجزوا، فلو أعتبرنا فيها القدرة على العمل فلا يكون العقد جعالةً.

وفي المضاربة أحياناً يعطي صاحب المال الف دينار للعامل ليتجر به، ويصرح العامل بعدم قدرته على إستثمار الألف بشكل جيد، ولكن صاحب المال يرضى بإعطاءه المال مع هذا القيد، فهل هناك مانعٌ من ذلك؟

نعم؛ يمكن تأطير العقد من حيث الزمان ومقدار المال ومقدار الحصص لتتضح الأمور، أما باقي الأمور فليس بالضرورة وضوحها خصوصاً إذا علمنا أن هذا العقد قد يؤدي إلى التجارة – في الغالب- وهي أساساً غامضة ويسمى عقد التجارة بعقود المخاطرة.

ولذلك نحن نرى أن هذا الشرط هو تحصيل حاصلٍ وهو مرتبط بالمتعاقدين، وفيما يلي نذكر قول المحقق اليزدي قدس سره ومن ثم نبحث حالة التخلف عن هذا الشرط، قال السيد: "أن لا يكون رأس المال بمقدار يعجز العامل عن التجارة به (وتعرف قدرته بالإدعاء أو بواقع الحال أو أية قرينة أخرى)[3] مع اشتراط المباشرة (أما مع عدم الإشتراط جاز الإستعانة بالغير في المقدار المتفق عليه) من دون الاستعانة بالغير أو كان عاجزا حتى مع الاستعانة بالغير و إلا فلا يصح لاشتراط كون العامل قادرا على العمل"[4] .

إلا أنّا لم نجد هذا الشرط في أحاديثنا خلاف الشرط المعتبر لدى العرف، على سبيل المثال فإن شرط الإستطاعة شرطٌ في كل التكاليف الشرعية وغيرها، ولكن في الحج هناك شرطٌ إضافي بالإستطاعة، حيث قال سبحانه: ﴿وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبيلا﴾[5] مما فيه دلالة على أنها إستطاعة خاصة، فمضافاً إلى الإستطاعة العقلية (العامة) يعتبر في الوجوب الإستطاعة شرعية التي يحددها الشرع بكونها إستطاعة مالية وبدنية وتخلية السرب (أمنية) وغيرها.

فهل لدينا في باب المضاربة مثل هذه الكلمة في آيةٍ أو رواية أم لا؟

فإن لم يكن لدينا نصٌ شرعي خاصٌ – وهو كذلك - فلنترك الأمر على الطبيعة المتبعة عند العقلاء.

ومن هنا فإن قول السيد قدس سره "كما أن الأمر كذلك في الإجارة للعمل فإنه إذا كان عاجزاً تكون باطلة" تحصيل حاصل لأن صاحب العامل لا يستأجر من يعجز عن القيام بالعمل، ولكن إذا رأى ضعيفاً عاجزاً ولكنه أراد كمساعدةٍ له إستئجاره هل نمنعه من ذلك؟

وهنا نعيد ما ذكرناه، إن قلنا أنه شرطٌ عقلي فلا كلام، أما إعتباره شرعياً فلا دليل عليه، وهذا غير خاصٍ بهذا العقد بل هو في كل العقود.

 

فروع

الفرع الأول:

إذا افترضنا أن أحدهم تعامل مع شخص وقال له لك التصرف في هذه الأموال والإتجار بها والربح بيننا، وكان العامل عاجزاً، فهنا تتفرع فروع:

الأول: هل كان يعلم صاحب المال بعجز العامل أم لا؟ فإن كان عالماً وأعطاه المال فتلف المال بيد العامل بدون تعدي أو تفريط، فليس على العامل شيئاً، لعلم المالك بذلك وبالتالي إقدامه هو على إتلاف ماله.

أما إذا لم يكن صاحب المال عالماً بوضع العامل كما لو تظاهر بقدرته على العمل فخدعه وأخذ الأموال، فبإعتبار أن هذه المعاملة باطلة فلو تلف المال في يد العامل كان ضامناً، للدليل الخاص برجوع المغرور على من غرّه.

ولو إفترضنا أن المالك يعلم وأقدما على المعاملة وربحت المعاملة، كيف نقسم المعاملة؟

قالوا يكون الربح كله للمالك وللعامل أجرة المثل، وفيه:

أولاً: العامل قد أتفق على نصف الربح فكيف يعطى أجرة المثل، فقد يقال ذلك لبطلان المعاملة، إلا أن المالك كان عالماً بالبطلان وأقدم على المعاملة، ومادام عالماً بالبطلان ومقدما على المعاملة، فهو قد أقدم على ضرره.

ثانياً: شمول المقام لقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده؟ لأن العامل عمل على أساس كون نصف الربح له فكيف وأقدم المالك عالماً بالأمر ذاته فكيف لا نلزمه بما ألزم به نفسه؟

ومن هنا فلابد من التفصيل في ما لو قلنا ببطلان المعاملة بحسب الحالات، فإن كان المالك مغروراً فيرجع على من غره أما مع عدم غرره فلا رجوع.

ثم قال المحقق اليزدي قدس سره: "وحينئذ فيكون تمام الربح للمالك و للعامل أجرة عمله مع جهله بالبطلان و يكون ضامنا لتلف المال إلا مع علم المالك بالحال"[6] .

وفيما يرتبط بضمان العامل المال التالف حال علم المالك بعجزه، نقول كيف نضّمنه المال والمالك يعلم بعجز العامل أداء هذا الحق وأقدم؟ خصوصا مع الإتفاق على كون يد المضارب على المال أمينة، وتضمينه خلاف للقاعدة في الباب.

هنا ينبغي أن نرجع إلى الأصول والمرتبطة بالمقام هي:

الأول: المغرور يرجع على من غره.

الثاني: ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده.

الثالث: الإقدام على الضرر يسقط حق المقدم بالمطالبة بالحق التالف.

الرابع: لا يتوى حق امرءٍ مسلم، وبخسه حقه المتفق عليه ظلم.

و كل هذه الأصول ينبغي أن يلاحظها القاضي في القضية، بأن يدرس الواقعة من أبعادها المختلفة ويقضي بما ينبغي أن يقضي به.

 

الفرع الثاني

لو كان قادراً على التعامل بنصف مليون دولار مثلا، ولكنه أخذ مليونا، فتلف المال كله، كما لو خسره في التجارة أو تلف بسرقة بدون تفريط، قالوا – كما مر- : أنه ضامن، فهل يكون ضامناً للجميع أم للزائد عن قدرته؟

اختلفوا: فمنهم من ذهب الى ضمان النصف الزائد على قدرته، لأن المضاربة وقعت صحيحة في النصف وباطلة في الآخر، فلا ضمان إلا فيما بطل، وذهب آخرون إلى ضمان الجميع نظراً لعدم تبعض المعاملة.

نحن نقول: هذا أيضاً يرجع إلى النية، كيف؟

العقد صفقة واحدة، ولكن في كثير من الأحيان الصفقة الواحدة تتشعب إلى صفقات، فإذا كانت هناك نية بإمضاء المعاملة على كل حال، فإذا بطلت في النصف تبقى صحيحة في النصف الثاني، أما إذا كانت نيتهم جملة واحدة، فإذا بطل جزءٌ بطل الكل، وفي الشرع مثل هذا في خيار تبعض الصفقة، حيث يكون الخيار لأطراف العقد تبعاً لنيتهم من الإقدام على المعاملة.

ومن ثم فهذا الموضوع هو الآخر من المواضيع القضائية حسبما نرى، فالقضاء هو الذي يشخص الواقع بعد ثبوت الحكم من قبل المشرع.

وبالجملة فنحن نرى في باب المضاربة ينبغي أن نعطي للناس سعةً للتخلص من الربا، لأن حاجة التكامل بين المال والعمل حاجة ملحة لا يمكن الإستغناء عنها، وبفتح أبواب المضاربة نصد أبواب الربا من الناس، والله العالم.


[1] الفقه الاسلامي تعليقات على العروة الوثقى و مهذب الأحكام، السيد محمد تقي المدرسي، ج3، ص196.
[2] الزمر/السورة39، الآية18.
[3] بين الهلالين تعليق السيد الأستاذ دام ظله.
[4] الفقه الاسلامي تعليقات على العروة الوثقى و مهذب الأحكام، السيد محمد تقي المدرسي، ج3، ص196.
[5] آل عمران/السورة3، الآية97.
[6] الفقه الاسلامي تعليقات على العروة الوثقى و مهذب الأحكام، السيد محمد تقي المدرسي، ج3، ص196.