الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

39/03/27

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: تعريف المضاربة لغةً وإصطلاحاً / كتاب المضاربة

 

"كتاب المضاربة‌ و تسمى قراضا عند أهل الحجاز و الأول من الضرب لضرب العامل في الأرض لتحصيل الربح والمفاعلة باعتبار كون المالك سببا له والعامل مباشراً والثاني من القرض بمعنى القطع لقطع المالك حصة من ماله ودفعه إلى العامل ليتجر به و عليه العامل مقارض بالبناء للمفعول وعلى الأول مضارب بالبناء للفاعل".[1]

 

بعد البحوث التمهيدية عن مرجعية العقود المتمثلة بالتحديد الشرعي ومن ثم التحديد العرفي، وكذا الحديث عن التفريق بين كلمات الفقهاء الواردة لبيان الحكم الشرعي الثابت وبين ما أوردوه كأحكام ولائية قضائية لرجوع المجتمعات إليهم، وصلنا إلى الحديث عن عقد المضاربة.

عقد المضاربة

هناك تشابه بين عقود الشركة والمضاربة والمزارعة والمساقاة، وخصوصاً في الثلاث الأخيرة، فعقد المضاربة أساساً عقدٌ مكوّن من جملة عقود مترابطة، وكما في العقدين الآخرين (المزارعة والمساقاة) هو عقدٌ يرتبط بتكامل المال والرجال، أو المال والعمل، حيث يكون المال من شخص والعمل من الآخر، والمضاربة هي الأصل بين تلكم العقود الثلاثة لكثرة إنتشارها بين الناس من حيث تعاملهم وثانياً لأنها الأكثر توسعةً وإن كان بعض أحكامها تشترك مع المزارعة والمساقاة أيضاً.

 

تعريف المضاربة

سمي هذا العقد بعقد "المضاربة" كما سمي بعقد " القراض" أيضاً عند أهل الحجاز، فالمضاربة من باب المفاعلة (ضارَبَ، يضارب، مضاربةً) والقراض (قارَض يقارض مقارضةً وقراضاً) بإعتبار أن لباب المفاعلة ثلاثة مصادر، فماذا تعني المضاربة وماذا يعني القراض؟

قال الأكثر أنها من الضرب في الأرض كما قال الله سبحانه: ﴿وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّه‌﴾[2] كنايةً عن التجارة، لقطع التاجر المسافات طلباً في الربح.

أما القراض فهي تشابه المساهمة بأن يعين أحد الفردين قسماً من ماله للآخر، فصاحب المال يقتطع قسماً من ماله للعمل به، وأما العامل فيقتطع قسماً من الربح.

فلا إتفاق بين الكلمتين (المضاربة والقراض) بهذا التعريف عنهما.

وبتصورنا: أن التسمية الأصلية لهذا العقد هي "القراض" والمضاربة هي تعبيرٌ آخر عن القراض، وبذلك يكون معنى الضرب هو من تحديد السهام – وسيأتي الحديث عن إشتراط تحديد حصة الطرفين وسهمها، فكلمة الضرب في اللغة العربية وضعت لكل فعلٍ فيه حسمٌ وإعلانٌ ولا غموض فيه (كما في: ضَرَب مثلاً، ضربنا الأمثال) فالمثال يضرب لوضوحه، والضرب يسمى ضرباً لصداه وكونه معلنا، وبالتوسع في كلمة الضرب في اللغة وموارد إستعمالها نجد هذا المعنى قريباً للكلمة.

 

حقيقة المضاربة

أما حقيقة العقد فهو أحد الطرق الثلاث المختلفة في التعامل بين المال والعمل، والطرق الثلاث هي:

الأول: دفع المال للعامل بدون أن يكون لصاحب المال حصةٌ من الربح، على نحوٍ يكون العامل ضامناً لرأس المال، وهذا هو "القرض".

الثاني: دفع المال للعامل دون أن يكون للعامل نصيبٌ من الربح بل يكون الربح كله لصاحب المال، سواء كان عمل العامل بأجرة أم بصورة تبرعية وهو "التبضع أو البضاعة".

الثالث: دفع المال للعامل مع إقتسام الأرباح بين العامل وصاحب المال وهذا هو "المضاربة".

فالمضاربة عقدٌ بين صورتي "القرض" و "البضاعة".

 

المال عمل مجسد

وهنا نشير إلى أمر مهم وهو أن المال في حقيقته عملٌ مجمد أو فقل عملٌ مجسّد، إذ أن المال الذي يحصل عليه الإنسان إنما هو تعبيرٌ عن عمله خلال فترة معينة، فأجرة الأجير هي بمثابة عمله وترجمةٌ لعمله في عملة، ومن هنا يكون صاحب المال شريكاً للعامل في العمل، غاية الأمر أن صاحب المال كان عمله سابقاً على المضاربة.

 

عدم تحديد العلاقة بين المال والعمل

هذا كله فيما لو حدد الطرفان العلاقة بين المال والعمل، ولكن فيما لو لم يحدداه، فما هو الأصل؟

إختلف الفقهاء، فمنهم من قال بأن الأصل أن يكون الأمر بالمناصفة بين العامل والمالك، بعيداً عن وجود عقدٍ أو تراضي، فلو كان بيد أحدهم مال مجهول المالك فأتجر به لا بنية التبرع، يقول العقلاء بإستحاق العامل جزءاً من الربح كما يستحق صاحب المال الربح أيضاً.

هكذا قال البعض، وهو الأقرب، إذ ينبغي أن لا يتوى حق امرء مسلم، والقرآن الكريم يأمر بإعطاء كل ذي حق حقه، وهذا ما يحكم به العقل أيضاً فإن للمال حقٌ وللجهد حق أيضاً، إلا إذا أسقط أحدهما حقه بإختياره.

بين القرض والربا

وبمناسبة الحديث عن المضاربة والعلاقة بين رأس المال والعمل، سنتحدث في نهاية هذا الباب عن الربا الذي يعد أكبر مشكلة للإقتصاد العالمي اليوم، فرغم نداء علماء الإقتصاد بمخاطره على العالم إلا أن المستفيدين منه وهم أصحاب النفوذ يصرون عليه، وقد بين الأئمة الاطهار عليهم السلام حكمة حرمة الربا، حيث أن شياعه يؤدي إلى إمتناع الناس من القرض ويحرمون بالتالي من فائدته، فما هي فائدة القرض؟

فائدة القرض هي إيصال المال الزائد لدى الناس والمخزّن في البيوت أو البنوك والذي يعجز صاحبه عن إستعمالها إلى العاملين، بحيث تتحرك العجلة الإقتصادية، أما إذا امتنع الناس عن القرض فمن جهة يمتنع الكثير من الناس التعامل مع القروض الربوية لأنها تؤدي إلى خسارتهم لجهدهم ومالهم، وبالتالي سيبقى جزء كبير من المجتمع بلا عمل وحركة فيجمد الإقتصاد ويضر بالجميع، وربما أضر بهم حتى من الناحية الإجتماعية لأن الطاقة المتوقفة قد تضر الأمن الإجتماعي، ومن هنا كان أجر القرض أكبر حتى من أجر الصدقة[3] .

 

كتاب المضاربة

قال السيد اليزدي قدس سره في عروته الوثقى: "كتاب المضاربة‌ و تسمى قراضا عند أهل الحجاز و الأول من الضرب لضرب العامل في الأرض لتحصيل الربح والمفاعلة باعتبار كون المالك سببا له و العامل مباشراً والثاني من القرض بمعنى القطع لقطع المالك حصة من ماله ودفعه إلى العامل ليتجر به و عليه العامل مقارض بالبناء للمفعول و على الأول مضارب بالبناء للفاعل".[4]

هذا عن التعريف اللغوي، أما عن ماهيتها فيقول: "وهو عبارة عن دفع الإنسان مالا إلى غيره ليتجر به على أن يكون الربح بينهما لا أن يكون تمام الربح للمالك و لا أن يكون تمامه للعامل و توضيح ذلك أن من دفع مالا إلى غيره للتجارة تارة على أن يكون الربح بينهما و هي مضاربة و تارة على أن يكون تمامه للعامل و هذا داخل في عنوان القرض إن كان بقصده و تارة على أن يكون تمامه للمالك و يسمى عندهم باسم البضاعة و تارة لا يشترطان شيئا و على هذا أيضا يكون تمام الربح للمالك فهو داخل في عنوان البضاعة و عليهما يستحق العامل أجرة المثل لعمله إلا أن إشترطا عدمه أو يكون العامل قاصداً التبرع مع عدم الشرط و عدم قصد التبرع أيضا له أن يطالب الأجرة إلا أن يكون الظاهر منهما في مثله عدم أخذ الأجرة و إلا فعمل المسلم محترم ما لم يقصد التبرع"[5] .

وما يظهر منه قدس سره أنه يرى أن الربح للمالك ما لم يشترطا خلاف ذلك، فالأصل عنده عدم وقوع المضاربة وإنما تقع تبضعاً وبذلك يكون الربح لرأس المال فحسب، وهو ما ذهب إليه بعض الأعلام أيضاً ولعله لما يرونه من مخالفة المضاربة لمقتضى القواعد.

إلا أننا بينا فيما سبق أن الأمر على الخلاف تماماً فالعقل يحكم بإستحقاق العامل كما يستحق صاحب المال حصةً في الربح، نعم يرجع في تحديدها إلى قاعدة العدل والإنصاف أو إلى العرف في مجال تحديد الحصة.

أما القول بعدم إستحقاقه الربح وإستحقاقه أجرة المثل فحسب فهو مشكل، إذ الربح يكون لمجموع المال والعمل لا إلى أحدهما وحده، والله العالم.


[1] العروة الوثقى فيما تعم به البلولوى(المحشى)، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص145.
[2] المزمل/السورة73، الآية20.
[3] الكافي، الشيخ الكليني، ج7، ص230، ط دارالحديث. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله: "الصَّدَقَةُ بِعَشَرَةٍ وَ الْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ"،
[4] العروة الوثقى فيما تعم به البلوى(المحشى)، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص145.
[5] العروة الوثقى فيما تعم به البلوى (المحشى)، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص146.