الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

39/03/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: بحوث تمهيدية 2/ كتاب المضاربة

"كتاب المضاربة‌ و تسمى قراضا عند أهل الحجاز و الأول من الضرب لضرب العامل في الأرض لتحصيل الربح والمفاعلة باعتبار كون المالك سببا له والعامل مباشراً والثاني من القرض بمعنى القطع لقطع المالك حصة من ماله ودفعه إلى العامل ليتجر به و عليه العامل مقارض بالبناء للمفعول وعلى الأول مضارب بالبناء للفاعل".[1]

كان الحديث عن العقود وتحديداً في عقد المضاربة، حيث مهدنا في البحث السابق بمقدمة من أجل توضيح ما يمكن أن نختلف فيه في هذا العقد، الذي أصبح مثاراً للجدل لأهميته وكثرة الحاجة إليه، وما يرتبط بذلك مما يتم اليوم في العقود.

قلنا بأن المرجعية الأساسية في العقود هو العرف، لأن الله سبحانه قد حمّلنا نحن البشر المسؤولية؛ وكل مسؤولية لابد أن تكون مع الحرية أو الصلاحية – إن صح التعبير- ومن دون ذلك لا يمكن أن تكون المسؤولية، ومن ذلك أوجب علينا الرب الوفاء باليمين والعهد والعقد والشهادة، وبكل ما يرجع بتحمل الإنسان لكلمته، طبعاً يختلف الوعد عن غيره فهو ليس بمستوى العهد والعقد والميثاق، ولكن هو الآخر ينبغي على الإنسان أن يتحمله ويصدق فيه.

كانت هذه المقدمة من أجل بيان أصالة إتباع العقود للقصود وأنه شريعة المتعاقدين، وتبياناً للكلمة المتداولة بين الفقهاء رضوان الله عليهم من إتباع العقد لما هو متعارف، فهو تعبيرٌ آخر عن العرف.

ولابد في المقام من بيان الرأي الآخر في المقام وهو ما يذهب إليه الكثير من فقهائنا وهو أن الأصل في العقود هو الفساد لا الصحة، وبالتالي لابد أن يكون العقد ممضى من قبل الشرع ليكون مقبولاً، وأن العقود التي كانت في التاريخ هي الوحيدة الممضاة دون المستجدة منها.

وهذا الرأي نجده في تضاعيف كلماتهم رضوان الله عليهم، ولكن بالرغم من ذلك نجدهم يتحدثون أحياناً عن المتعارف، وعن عقودٍ لم تكن ممضاة من الشرع في زمان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، لإعتبارهم الألف واللام في آية الوفاء عهدية، فحيث لم نجد أو لم نتأكد من وجود عقدٍ في زمان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، ينبغي أن لا يصححه المتبنين لهذا القول، ولكنهم رغم ذلك يصححون بعضها المستجدة بتقادم الأيام.

وعلى أي حال فهذا الموضوع يحتاج إلى دراسة فهل الأصل في العقود هو الفساد كما ذكروا أم أنه الصحة، فهذا يرتبط بتفاصيل العقود من جهة، وبالعقود المستحدثة من جهة أخرى.

وقد ذكرنا، أن الأصل في الألف واللام أن تكون لبيان الجنس لا العهد، ثم أن السياق لا يساعد ما ذكروه، إذ لم نجد في السياق الحديث عن عقود مخصوصة كي يرجع إليها العهد، ولو فرض عدم كفاية الآية المباركة فهناك آيات أخرى تدل على الإطلاق مثل آية التجارة عن تراض.

ونحن سنركّز في حديثنا على كلمات المحقق النجفي الذي يرى أصالة فساد العقود التي لم تكن في عصر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، ولكنه وبالرغم من ذلك يصحح بعض العقود الجديد معتمداً على الآية وعلى إطلاقات الأدلة.

 

التمهيد الثاني: الفرق بين مقتضى العقد وإطلاقه

لابد من أن نمهد لعقد المضاربة ببيان الفرق بين مقتضى العقد وإطلاقه، فنجد تارة يقولون أن هذا الشرط يخالف مقتضى العقد، وأخرى يقولون أن هذا الشرط يخالف إطلاق العقد، فما هو الفرق بين الأمرين ولماذا التفريق؟ وما هي المرجعية التي نرجع لها في تحديد الفرق بينهما؟

مثلاً: لو باع الشيء شريطة عدم تملك المشتري له فهذا شرط يخالف مقتضى العقد، لأن جوهر عقد البيع هو تبادل الملكية فكيف لا يملكه؟

وكذا الإجارة بشرط عدم الإنتفاع بالمستأجر، وكذا المضاربة بشرط عدم عمل العامل، فأصل الإجارة تمليك المنفعة، وأصل المضاربة هي عمل العامل مقابل نسبة من الربح، فهذه الشروط تخالف مقتضى العقد أي جوهره وحقيقته.

أما مقتضى الإطلاق في العقد فيرتبط باللفظ، بلحاظ الإطلاق والتقييد، فمن باع شيئاً مطلِقاً للفظ البيع ينصرف ذلك إلى نقد البلد وكذا بالنسبة للوزن والكيل وشروط التسليم والتسلّم، فمقتضى إطلاق لفظ البيع هو ما يفهمه العرف منه، إذ يصرح الفقهاء ـ أحياناً ـ بمحورية ما هو متعارف من العقد.

إذاً فنحن نرجع إلى مرجعية العرف في تحديد مقتضى إطلاق العقد، وبإختلاف الأعراف يختلف فهمهم للإطلاقات اللغوية، فبعت في عرفٍ تنصرف إلى البيع بالدينار، وفي عرفٍ آخر بالدولار، ومن هنا نقصد بإطلاق العقد ما يفهمه العرف من هذه الكلمة.

فإذا كان الأمر كذلك فلماذا يقوم الفقهاء بهذه التحديدات؟

ويتبين هذا الأمر لمن راجع كتاب شرائع الإسلام الذي يعد جوهرة كتبنا الفقهية ودرتها، حيث يكرر المحقق بيان مقتضى إطلاق عقد الإيجار والبيع وشبهه.

ولم أجد من تعرّض من الفقهاء للإجابة على هذا التساؤل بوضوح، ولكنّا نقول في معرض الإجابة: أن علمائنا رضوان الله عليهم كانوا مصدر الفتيا ومصدر الأحكام الولائية، فحتى في عصور الدكتاتوريات كان مرجع الناس في قضاياهم إلى العلماء، نعم؛ بعد نشوء الدول الحديثة وتطورها قلّ الأمر، ولكن الناس وحتى قبل مائة عام كان الناس يرجعون في قضاياهم المختلفة إلى العلماء، فكان العلماء مصدر بيان حكم الشرع والفتيا من جهة، ومصدر الولاية من جهة أخرى لحسم مادة الخلاف بين الناس.

وأبرز مصاديق الحكم الولائي هو حكم الجهاد، فالفقيه يفتي بالجهاد بإعتباره ولياً للأمر – سواء قلنا بولايته في الأمور الحسبية فقط أم في أوسع منها- وأنا شخصياً لم أجد من الفقهاء من لم يبين مسألة ولاية الفقهاء، غاية الأمر الإختلاف في حدودها بعد إحراز أصلها عند الجميع.

ولما كان للفقيه جهة الولاية، وأردنا معرفة العرف وبيان حدوده، نرجع إلى الفقيه لأنه كان يمثل القانون، لا بإعتبار بيان الحكم الشرعي، بل بإعتباره ممثلاً وعالماً بالعرف، فهناك صفتان في كلامه: الأولى ما يعكس العرف، والثانية ما يعكس الولاية.

ولكنه في ذات الوقت صرحّوا بأن هذه الأحكام هي مقتضى إطلاق ألفاظ العقود، فلو كانت هناك شروط مخالفة للإطلاق إلتزم بها، فإطلاق البيع يقتضي أن يكون بنقد البلد إلا إذا أرادا خلاف ذلك، وكذا الأصل أن يكون نقداً إلا إذا إشترطا السلف أو النسيئة، وهكذا في سائر الشروط التي تقيد الإطلاق.

هذا هو ما جرت عليه عادة قدماء الأصحاب، ولكن الذي حدث هو البناء على أن ما دوِّن في هذه الكتب هو حكم شرعي ثابت، والحال أن غالبها هي ليست أحكاماً شرعية ثابتة ولذا لا يستدلون عليها غالباً، بل هي أحكام بإعتبار ولايتهم على الناس بعد دراستهم للعرف ومقتضيات الناس أفتوا بها، مع فتح المجال للمتعاقد في إضافة أو حذف ما شاء في حدود الشرع.

فهذه المفارقة[2] هامة جداً في فهم كلماتهم رضوان الله عليهم، ويمكن فهم هذه القضية بشكل أفضل من خلال بيان الشراح حيث يصرحون أن الحكم الكذائي ليس متعارفاً، ومثال ذلك في المضاربة: هل يد المضارب أمينة أم ضمينة؟ فلو أدعى المضارب تلف المال هي يقبل كلامه أم لا؟

العرف يرى أن يده يدٌ أمينة، فلولا أمانته لم يكن المضارِب يدفع له المال، ولكن إذا إعتبرنا أمانة كل عامل سيؤدي ذلك إلى عدم مجازفة أصحاب المال بدفعها إلى العامل، وبالتالي تتوقف الحياة، فهل يجوز للمالك أن يضمّن العامل؟ فإذا تلف المال يكون ضامناً لها إلا إذا أقام بينةً على عدم تفريطه؟

إختلف الفقهاء، فذهب المشهور إلى عدم الجواز، وذهب بعضهم مثل صاحب العروة[3] وصاحب الجواهر[4] وغيرهما إلى الجواز فقالوا: الأساس في يد العامل الأمانة، إلا إذا إشترطا خلاف ذلك، بإعتبار عدم كون الأمانة مقتضى جوهر المضاربة، بل هو مقتضى إطلاقها أي أنها أمينة فيما لو لم يشترط وإلا تكون ضمينة، ودليلهم في ذلك العرف، حيث يشترطون أحياناً الضمان.

فهذه الأحكام من الموسعات التي تتبدل بحسب فتوى الفقيه إنطلاقاً من فهمه للعرف والمصلحة، إذ مرجعية الفقهاء في الفتوى ليست مرجعية محددة بالشرع، بل مرتبطة أيضاً بالمتغيرات (الولائيات) وبما يعرّفونه بالمنافع والمصالح، ولكن ذلك لا يكون ملزماً إلا في حال الإطلاق، ومن هنا لابد من النظر إلى كلمات الفقهاء مع الإلتفات إلى هذه النقطة، وهي التفريق بين مقتضى العقد وإطلاقه، وهذا ما سيتكرر في باب المضاربة.

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.


[1] العروة الوثقى فيما تعم به البلولوى(المحشى)، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص145.
[2] بين كلماتهم بإعتبارها مبينة لحكم الشرع، وبين ما حكموا به من جهة الولاية [المقرر].
[3] . أنظر: العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج2، ص647. (مسائل إطلاق العقد)
[4] . أنظر: جواهر الكلام، الشیخ محمد حسن النجفي، ج26، ص350.