الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

39/03/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: بحوث تمهيدية / كتاب المضاربة

 

حديثنا في هذا الفصل عن عقود المشاركة، وهي العقود التي يجتمع أكثر من طرف فيها، وتعود منفعتها كذلك، وهي تبدأ بالشركة والمضاربة وتنتهي إلى كتابي المساقاة والمزارعة؛ وهذه العقود في حقيقتها عقود المشاركة في العمل الإقتصادي وسيدتها المضاربة، بإعتبار الأكثر رواجاً حتى قبل أن تنشأ المؤسسات الحديثة في الشراكة كالبنوك وما أشبه، فكان عقد المضاربة هو العقد الأشهر في تنظيم علاقة العمل ورأس المال وتكاملهما في بناء الإقتصاد.

وقد حضيت المضاربة ببحوث معمّقة عبر التاريخ منذ عهد الأئمة عليهم السلام، وحتى الآن.

 

مرجعية العقود[1]

وقبل أن نبدأ بالحديث عن المضاربة، لابد أن نتحدث عن شرعية العقود وبالتالي نؤسس لمرجعية فقهية في حالة الشك وفي حالة الخلاف. وربما سبق ـ في أحاديث شتى حول العقود ـ الكلام منا حول هذه التقدمة وهي التي نتحدث فيها عن شرعية العقود ومرجعيتها، وبتعبير آخر: عند الشك في صحة نوعٍ من العقود خصوصاً الجديد منها فما هي المرجعية وما هو المعيار في ذلك؟

المعيار في ذلك – في رأينا - إطلاقات الأدلة، فيجب الرجوع إلى تلك الإطلاقات، فالبناء في الأحكام هو بناء هرمي، فتكون الأصول فيها هي تلك الإطلاقات والعمومات وينتقل من الأصول إلى الفروع.

وأولى تلك الأصول المبحوثة، البحث عن حرية الإنسان، فهل نحن البشر أحرار ومسلطون على أنفسنا وبالتالي على أعمالنا وأفعالنا؟

بلى؛ الإنسان حرٌ في تصرفاته، ويستدل على وجود الحرية بتحميله تلك المسؤولية، في قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولا﴾[2] ، ولا فرق أن نفسر الأمانة بالولاية أو غيرها فإن مؤداها هي أن المسؤولية ملقاة على عاتق البشر.

وهكذا في قوله سبحانه: ﴿وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ في‌ عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُورا﴾﴿ اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى‌ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسيبا﴾[3] [4] ، أي أنه مسؤول عن أعماله، وكذا قوله سبحانه ﴿وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُون‌﴾[5] فالإنسان مسؤول عن أعماله ولولا حريته في الحياة لما كان مسؤولاً عما يفعله.

ومن أبعاد مسؤولية الإنسان، هي مسؤوليته عن قراراته وتعاملاته مع الآخر، فنحن نتحمل مسؤولية تواصلنا وتعاملنا مع الآخرين، وعلاقة الناس بينهم إما علاقة عداوة أو صداقة وإما علاقة تكامل، والثالثة تدخل ضمن عقود مختلفة.

ولا يخفى أن التدرج في هذه الروابط تكون من الميثاق – وهو من أعظم العقود- وهو يطلق على العقود بين الشعوب والأمم والجماعات، ومن الميثاق يكون العهد الذي كان مسؤولاً، ومنه يكون العقد، ومن العقد الشروط بين المسلمين؛ وكلها تدخل في إطار الذمة، وهي تعني تحمّل الكلمة التي يطلقها الإنسان ويلتزم بها، فأساس العقود تبادل المنفعة ولكن على أساس التعهد والتعهد يكون من "الذمة" أو الـ "إلّ" (من باب اليمين أو العهد).

هذه المجموعة تدخل ضمن المسؤولية العامة التي هي مسؤولية الإنسان عن تصرفاته، كما سبق وأن قلنا.

ومن هنا فإن العقد الذي هو جزء في هذا الإطار العام يتبع القصد، ولذلك قالوا "العقود تتبع القصود"[6] أو كما عبر عنها علماء القانون الحديث "العقد شريعة المتعاقدين"[7] ، وهذا العقد هو الذي ينظمة الطرفان لكن لا ينظم ذلك إلا في إطاره الإجتماعي إلا أنه يبقى الأصل فيه قصد الإنسان ونيته.

وأشارت إلى ذلك قوله سبحانه: ﴿إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾[8] ، وحسبما يظهر لنا أن محورية التراضي (تبادل الرضا واتصال رضا بآخر) أفضل من التعبير بـ"العقود تتبع القصود".

والإمام يفسر العقد في قوله تعالى ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُود﴾[9] بالعهدفحتى لو كان العهد أوسع من العقد ـ وقد فسر البعض العقد بالعهد المشدد ـ إلا أن الواقع أنهما من صنف واحد[10] ، فإذا كان الأمر كذلك، فيأتي السؤال عن مكانة العرف ودور الشرع في تنظيم هذه العقود.

هنا بعض البحوث الدقيقة، نحاول أن نفسرها بمقدار ما نستطيع:

أولاً: يلاحظ في العقد العرف لوجهين:

الأول: أن العرف له دور الرعاية للعقد، وذلك لدرء الخلاف وفض النزاع، فلو ترك العرف جانباً فلا يمكن الرجوع إليه عند الإختلاف، فلابد من مرجعية للعقود وهنا يبرز دور العرف.

الثاني: لا يمكن أن تذكر في العقود (أفراد العقد الحقيقية) عند إبرامها كل الشروط والتفاصيل المتعلقة بها، مما يستدعي تأسيس أصول تغني العاقد عن ذكرها عند العقد والتعويل في العقود عليها، والعرف يؤسس لهذا الأساس ببيان جوانبه وحدوده، فيعتمدها الناس في عقودهم ومعاملاتهم.

نعم؛ لابد لنا كمؤمنين أن نلتزم بالحدود الشرعية لكل عقد أيضاً، فبالرغم من أن الشارع أطلق العقود فإنه حدد بعضها، كتحديده موضوع عقد النكاح حيث يشترط فيه الوضوح، وعدم التزلزل مثلاً.

ومن هنا فإنا نجد أن الشرع المقدس قد حدد قواعد عامة للتعاقد لابد من الإلتزام بها منها:

الف- الغرر: فالعقد الذي ينتهي إلى الصراع والخلاف مرفوض شرعاً والنبي قد نهى عن بيع الغرر.

باء- الربا: فالعقود الربوية قرضاً كانت أو معاملة باطلة وأي عقد ينتهي بأي صورة إلى الربا فحكمه كذلك.

جيم - الفساد: فالعقد على الممنوعات التي تمس أمن المجتمع أو الدولة وتؤدي إلى الفساد في الأرض مرفوضة شرعاً كبيع السلاح والمخدرات والتجسس وغير ذلك.

ثم بعد تحقيق الشروط المفروضة شرعاً وعرفاً يكون العقد على ما تراضى وتبانى المتعاقدان فيما بينهما، الأمر الذي ينفعنا في عدم جمود العقود، ويكون تطورها بتطور الحياة والأحداث.

فتطورات الأحداث تفرض نفسها في عقود جديدة تحتاج إلى مرجعية، فالقول بأن لا عقد جديد إلا ما كان متعارف سابقاً –كما عند البعض- يؤدي إلى صعوبة الحياة الإقتصادية.

أما إذا قلنا أن أساس العقد هو العهد وأساسه صلاحية الإنسان، نستطيع التفريع على ذلك الكثير من العقود الجديدة وكثير من التفاصيل الجديدة للعقود القديمة.


[1] لمزيد من التفصيل يرجع كتاب: المدرسي، محمد تقي، الفقه الاسلامي المعاملات اصول عامة، دار المدرسي، الطبعة الاولى، ص185.
[2] الأحزاب/السورة33، الآية72.
[3] الإسراء/السورة17، الآية13.
[4] الإسراء/السورة17، الآية14.
[5] الصافات/السورة37، الآية24.
[6] أنظر: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، ج‌23، ص110‌.
[7] وردت هذه القاعدة في الفقه المدني الروماني، وأخذ بها فقهاء القانون الفرنسي القديم، ونصت عليها المادة 1134 من التقنين الفرنسي وأصبحت من المبادئ الأولية التي تعبر عن وجوب التقيد بالعقد واحترامه في جميع التشريعات وقد فسرت بأنه ليس للمعاهدات من أثر إلا فيما بين الأطراف المتعاقدة [المقرر].
[8] النساء/السورة4، الآية29.
[9] المائدة/السورة5، الآية1.
[10] العهد يطلق على العقد وكذا العكس إلا أن الأول يلاحظ فيه الجانب القلبي كما في العهود مع الله والآخر يلاحظ فيه الجانب الإنشائي كما في العقود المختلفة والنسبة بينهما هي العموم المطلق كما لا يخفى. [المقرر].